شرح مختصر صحيح مسلم
شرح مختصر صحيح مسلم
كتاب الإيمان
11 -12
11 ـ عن الصُّنابحي ( عن عبُادة بن الصامت رضي الله عنه ) قال : دخلتُ عليه وهو في الموت ، فبكيتُ ، فقال : مهلاً ، لم تبكي ؟ فوالله لئن استشهدتُ لأشهدنَّ لك ، ولئن شفُعتُ لأشفعن لك ، ولئن استطعتُ لأنفعنك ، ثم قال : والله مامن حديث سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلاحدثتكموه إلا حديثا واحداً وسوف أحدثكموه اليوم ، فقد أحيط بنفسي ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من شهد أن لاإلله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله حرم اللهُ عليه النار )) .
الشرح :
وهذا هو الحديث الثالث في هذا الباب .
( عن الصنابحي ) الصنابحي اسمه : عبد الرحمن بن عسيلة أبو عبد الله ، مات النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يصل إليه الصنابحي بخمس ليال ، فقد ارتحل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فلما وصل المدينة قالوا له: توفي الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خمس ، فهو من المخضرمين ، والمخضرم هو : من أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه ، وعندنا ثلاث طبقات : طبقة الصحابي ، وهو مَنْ لَقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك .
الطبقة الثانية : المخضرم ، وهو : مَن أَسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه .
الطبقة الثالثة : التابعي ، وهو: من لقي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم . فالمخضرمون إذاً أعلى رتبة من التابعين .
قوله : (( عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : دخلت عليه وهو في الموت ، فبكيت )) أي : بكى على وفاة هذا الصحابي الجليل: عبادة بن الصامت وله من الفضائل كثير، وكان من أشراف الخزرج ، وأحد النقباء ، شهدا بدراً ، ومات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون ، وحديثه في الكتب الستة
قوله (( فقال : مهلاً ، لم تبكي ؟ فوالله ، لئن استشهدت لأشهدن لك ، ولئن شفعت لأشفعن لك ، ولئن استطعت لأنفعنك )) يعني في الآخرة يقول : إن استطعت أن أفعل ذلك ، أفعل إنْ شاء الله .
قوله (( ثم قال : والله مامن حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير ، إلاحدثتكموه ، إلا حديثا واحداً وسوف أحدثكموه اليوم )) وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتموا العلم ، ولم يحجب
وا شيئاً مما سمعوه عن النبي عليه الصلاة والسلام عن الناس ، لكن قد يترك الصحابي بعض الأحاديث التي لا يفهمها العامة ، وهذه الأحاديث لا يكون فيها بيان حد من حدود الله ، ولا فريضة من فرائض الله ، ولا أمر يتوقف عليه إسلام الناس أو إيمانهم ، وإنما ماقد يتعلق بفضائل الأعمال ، أو بقضايا الفتن وأخبار الساعة وعلاماتها ، وما أشبه ذلك ، يعني أنهم كتموا بعض العلم الذي خافوا بنشره حدوث ما يضاد الخير ، أو حصول الفتن ، أو الوقوع في سوء الفهم الذي يدخل الإنسان النار ونحوها من الأحاديث .
وقوله (( فقد أحيط بنفسي )) يعني : ظننت نزول الموت بي ، وخروجي من الدنيا ، فأراد أن يخبرهم بهذا الحديث ، لئلا يكتم شيئاً سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقع في الوعيد الوارد في كتمان العلم (1) .
قوله (( من شَهد أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار )) عبادة بن الصامت ومعاذ بن جبل ، ثبت أنهما كتما هذا الحديث عن الناس خشية سوء الفهم ، وقد وقع كما ظنا ، لأن المرجئة قالوا : يكفي من الإيمان الإقرار! ودليلهم هذا الحديث وغيره مما يشابهه، والإرجاء لا تظنوا أنه قد انقطع ، فكم من الناس اليوم تذّكره بالصلاة وأن تركها كفر، فيقول : أنا الحمد لله مسلم ، أشهد أن لاإله إلا الله !
وكم من الناس من تذكّره : يا أخي لا تأكل الربا ، لا تفعل كذا فتصيبك النار ، فيقول : أنا مسلم أشهد أن لاإله إلا الله !! فيتكل على هذه الكلمة ويدع العمل !
وهذا قد تلاعب الشيطان به فهو ، فكان كما قال تعالى (( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا )) [ النساء : 120 ] . نعوذ بالله تعالى من الغفلة والجهل .
وقد قال العلماء : إن هذا الحديث أحد شقي الموجبتين ، والموجبتان هما : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة .
ومن مات وهو يشرك بالله شيئا دخل النار .
الحديث الثاني عشر .
12 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمرُ رضي الله عنهما في نفر ، فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا ، فأبطأ علينا ، وخشينا أن يقُتَطَعَ دوننا ، وفزعنا ، فقمنا ، فكنتُ أول من فزع . فخرجتُ أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسل ، حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار فدرتُ به هل أجد له باباً فلم أجد ، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة ( والربيع : الجدول ) فاحتفزتُ فدخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( أبو هريرة ؟ )) فقلتُ : نعم يا رسول الله ، قال : (( ما شأنك )) ؟ قلت : كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تُقتطع دوننا ، ففزعنا فكنتُ أول من فزع ، فأتيتُ هذا الحائط فاحتفزتُ كما يحتفز الثعلبُ وهؤلاء الناس ورائي . فقال : (( ياأباهريرة ! )) وأعطاني نعليه وقال : (( اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهدُ ألا إله إلا الله، مُستيقناً بها قلبه، فبشره بالجنة . فكان أول من لقيتُ عمر فقال : ما هاتان النعلان ياأباهريرة ؟ فقلت : هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما، من لقيت يشهدُ أن لاإله إلا الله مسيقناً بها قلبه، بشرته بالجنة ، قال : فضرب عمرُ بيده بين ثديي فخررت لأستي، فقال : ارجع يا أبا هريرة ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشتُ بكاءً ، وركبني عمرُ فإذا هو على أثري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مالكَ ياأباهريرة ؟ )) فقلت لقيتُ عمرَ ، فأخبرته بالذي بعثتني به ، فضرب بين ثديي ضربةً خررت لإستي ، فقال : ارجع ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا عمر ما حملك على ما صنعت ؟ )) قال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقي يشهد أن لاإله إلا الله مسُتيقناً بها قلبُه بشره بالجنة ؟ قال : (( نعم )) ، قال : فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناسُ عليها ، فخلهم يعملون ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (( فخلهم )) .
الشرح :
هذا هو الحديث الرابع في هذا الباب .
قوله ( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه سلم معنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر ) يستفاد من هذا قعود المتعلمين حول المعلم ، وأخذهم عنه واستفادتهم منه ، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يحيطون بالنبي عليه الصلاة والسلام فيحدثهم ويعلمهم ويرشدهم. وفيه أيضاً : حسن إخبار أبي هريرة وفصاحته ، إذْ أنه لم يذكر جميع الصحابة الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا مما يشق ، فذكر أبرزهم فقال : (( معنا أبو بكر وعمر ثم عم الباقين بقوله : في نفر وهذا من دقته أيضاً .
قوله ( معنا ) فيها لغة أخرى ، وهي معنا بتسكين العين ، لكن الأشهر بفتح العين .
قوله : (( فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا )) من بين أظهرنا يعني : من بيننا ، ويقال أيضاً : من بين ظهرانينا ، وكلاهما صحيح .
قوله (( فأبطأ علينا )) يعني تأخر ، أي: قام عليه الصلاة والسلام لحاجته فأبطأ عليهم .
قوله (( وخشينا أن يقتطع دوننا . وفزعنا فقمنا )) وذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مستهدفاً كما تعلمون من اليهود والمنافقين والمشركين ، فلما قام من بينهم وأبطأ في الرجوع عليهم ، خشي الصحابة أن يكون قد اغتيل أو مسه سوء ، ففزعوا وقاموا يبحثون عنه صلى الله عليه وسلم ،
وفيه : إشفاق الصحابة على النبي عليه الصلاة والسلام ، وحبهم له والتماس حاجاته ، إذْ قالوا في أنفسهم: لعله احتاج إلى شيء ، فقاموا يبحثون عنه لينفعوه بخير أو ليصدوا عنه شراً .
قوله (( فكنت أول من فزع . فخرجت ابتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار )) الحائط : هو البستان ، وكانوا يحيطون البساتين بالحوائط ، فغلب اسم الحائط على البستان ، فصاروا يقولون للبستان : حائط . وقيل : سُمي حائطاً لأنه لا سقف له ، والأول أشهر ، فوجد وبني النجار، هم أخوال النبي عليه الصلاة والسلام ، لأن أمه كانت من بني النجار .
قوله (( فدرت به هل أجد له باباً فلم أجد )) بحث عن باب لهذا البستان فلم يجد لعله مارآه أو كان في موضع خفي فلم يره .
قوله (( فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة والربيع الجدول فاحتفزت فدخلت )) الربيع على اسم الفصل المعروف ، هو : النهر الصغير ، وكذلك الجدول . وكان يأتي من بئر خارجة عن البستان ، ويدخل في البستان عن طريق فجوة .
قوله (( فاحتفزتُ )) يعني : تضاممتُ وتصاغرتُ ، حتى أدخل في هذا النفق الصغير الذي يدخل منه الجدول ، واستفاد العلماء من ذلك : أنه يجوز للإنسان أن يدخل بستاناً لأخيه إذا غلب على ظنه سماحه بذلك ، قالوا و يجوز له أن ويأكل من طعامه ويشرب من شرابه ويركب دابته،
إذا غلب على ظنه أنه يسمح بذلك بلا حرج ، وأنه لا يشق عليه ، لأن أبا هريرة ما استأذن ، ثم النبي صلى الله عليه وسلم أقره ولم ينكر عليه ، وهذا الإقرار دليل كما تعلمون من الأدلة التي يستدل بها في السنة .
قوله (( فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أبو هريرة ؟ فقلت : نعم يا رسول الله قال : ما شأنك ؟ )) أي : ما خبرك ؟
قوله (( قلت : كنتَ بين أظهرنا فقمت فأبطأت …. فقال : ياأباهريرة ! )) ناداه النبي صلى الله عليه وسلم باسمه تنبيهاً له ، لما سيتكلم به من الأمر المهم ، وهي طريقة مستعملة في القرآن كثيراً ، كالنداء ب يا أيها الذين آمنوا أو يا أيها الناس يا أهل الكتاب .
قوله (( وأعطاني نعليه وقال : اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت ، من وراء هذا الحائط يشهد أنَّ لاإله إلا الله مستيقناً بها فبشره بالجنة )) أي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أعطى أبا هريرة نعليه، لتكون علامة ظاهرة يُستدل بها على صدق المتكلم ، وأبو هريرة كان مصدقاً عند الصحابة ومؤتمناً ، ولكن هذه زيادة تأكيد ، وعلامة تؤكد صدق المتكلم ، ويستفاد منه أيضاً أن العالم الكبير أو الإمام ، له أن يعطي رسوله أو نائبه علامة تدل على صدقه ، ككتاب موقع ومختوم مثلاً باسم الإمام ، أوأن يكون بخطه المعروف ، كبراهين يستدل به على صدق المتكلم ، ولو كان الإنسان مصدقاً غير متهم بالكذب ، لكن النفوس جبلت على حب البراهين ، وعلى حب الشواهد التي تشهد بصدق المتكلم .
قوله (( مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة )) وهذا فيه فائدة لأهل الحق : أن هذه الكلمة لا تنفع من شك فيها ، كما ذكرنا في الدرس السابق : أن المنافقين كانوا في شك مريب ، والله سبحانه وتعالى ذكر الكفار بهذه الصفة (( إنهم كانوا في شك مريب )) [ سورة سبأ : 54 ] فمن شروط لا إله إلا الله : اليقين ، فلا تنفع هذه الكلمة مَنْ قالها وهو شاك فيها مرتاب ، بل لابد أن يقولها وهو مستيقن بها من قلبه ، أي يوافق القلب القول ، يقول لاإله إلا الله بلسانه ، ويعتقد ذلك بقلبه ، وإلا كان هذا القول لاعبرة به ، ولا ينفع صاحبه في الآخرة .
قوله (( فكان أول من لقيت عمر فقال : ما هاتان النعلان ياأباهريرة ؟ فقلت : هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما، مَن لقيت يشهد : أن لاإله إلا الله ، مستيقناً بها قلبه بشَّرته بالجنة ، قال : فضرب عمر بيده بين ثديي ، فخررت لإستي )) ضربه بين ثدييه يعني: على صدره ، وفيه أنه يطلق الثدي على الرجل والمرأة ، وجاء ذلك في أكثر من حديث ، وضَرْبَ عمرَ لأبي هريرة في صدره لينتبه ويتأكد ، ولم يقصد عمر أن يَضرَّه أو أن يسقط ورائه ، وإنما قصد أن ينبه ويؤكد عليه .
قوله (( فخررت لإستي )) يعني وقعت على دبري ، وذكر الاسم الصريح ، والذي عليه التعبير والبيان في القرآن والسنة ، هو عدم ذكر الأسماء التي يستحي منها صريحةً ، فالله سبحانه وتعالى قال (( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )) [ سورة البقرة : 187 ] وقال عز وجل (( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض )) [ سورة النساء : 21 ] وقال عز وجل (( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن )) [ البقرة : 237 ] (( أولا مستم النساء ))[ المائدة : 61]
كل هذا ليس أسماء صريحة للجماع، ولأن هذه الألفاظ تغني عن ذكر الاسم الصريح، ول لبس ولا إشكال ، أما إذا كان اللفظ يحتمل اللبس والإشكال أو المجاز ، فعند ذلك يُذكر الاسم الصريح ، كقول الله عز وجل (( الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة )) [ سورة النور : 2 ] فذكر الله تعالى الاسم الصريح للفاحشة ، وكذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام للزاني : (( أنكتها )) ذكره بالاسم الصريح ، لئلا يقع في اللبس والإشكال ، وكذا لما سُئِل أبو هريرة رضي الله بعد أن حدث بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (( لا يقبل الله صلاة رجلً أحدث حتى يتوضأ )) قالوا : ما الحدث ؟ قال : فُساء أوضراط )) (1)ذكر الحديث بالاسم الصريح لئلا يقع إشكال ، وهنا أبو هريرة قال (( فخررت لإستي )) ليبين أنه حصل هذا الأمر بالفعل .
قوله (( فقال : ارجع ياأباهريرة ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاءً ، وركبني عمر فإذا هو على أثري )) رجع أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره عمر بذلك ، وعمر رضي الله عنه كانت له من المنزلة والمكانة مالا يخفى عند الصحابة ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يشاور أبا بكر وعمر في أمور المسلمين ، فلذلك رجع أبو هريرة .
قوله (( وأجهش بالبكاء )) وذلك أن الأنسان إذا حزن أو ظلم ، أو أصابه شيء وفزع تجده يتغير وجهه ، ويتهيء للبكاء ، ويقال : أجهشت وجهشت .
قوله (( وركبني عمر )) يعني لحقني عمر وسار على أثري ، أثرى يصح فيها الفتح للهمزة والثاء ، وكسر الهمزة وإسكان الثاء .
قوله (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك ياأباهريرة ؟ فقلت : لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثني به ، فضرب بين ثديي ضربةً خررت لإستي ، فقال : ارجع ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عمر ما حملك على ما صنعت ؟ )) لأن عمر كان قد أدركه وسار ورائه مباشرة ، فقال له : لم فعلت ذلك بأبي هريرة ؟
قوله (( فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك ، من لقي يشهد أن لاإله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة ؟ قال : نعم ، قال : فلا تفعل ، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها ، فخلهم يعملون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فخلهم )) .
وفيه فوائد منها : أنَّ الإنسان يجوز له أن يفدي أخاه بالأب والأم ، وهذا كثيراً ما وقع من الصحابة وتعني : فداك أبي وأمي .
قوله (( فقال أبعثت أبا هريرة )) عمر رضي الله عنه أعاد الكلام من أجل أن يبين ما عنده من الرأي ، وفي هذا جواز إبداء الرأي من المفضول للفاضل ، والرسول عليه الصلاة والسلام سمع من عمر ، وفي هذا أن الفاضل العالم الإمام ينبغي له أن يسمع كلام المفضول ، فإن كان له شبهة على أمره ، ردَّ عليه ، لتكون الطاعة عن قناعة ، وينقاد بالحجة والبرهان ، والحق أحق أن يتبع ، والحق ضالة المؤمن .
فالرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بهذا الأمر ، وجاء عمر وأبدى ما عنده من رأي ، وافقه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( فخلهم )) وذلك أن البشرى إذا جاءت للناس ، فإنَّ الناس سيتكلون عليها ، فتعجيل البشرى لهم فيه ضرر على أعمالهم ، لأنَّ الإنسان إذا بُشَّر بهذه البشرى ، التي هي عمل قليل وأجر عظيم جزيل ، اتكل وضعف عن العمل ، وأعجب بعمله ، والإعجاب بالنفس هلاك ، وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في المهلكات الثلاث فقال (( ثلاث مهلكات … منها : إعجاب المرء بنفسه )) (1) فإذا أعجب الإنسان بنفسه وبعمله هلك ، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بالإنسان أن جعله من أهل الذنوب ، ولم يعصمه من الذنوب مطلقاً ، لأنه لو عُصِم من الذنب لوقع فيما هو من أشد الذنوب ، كما قال صلى الله عليه وسلم (( لو لم تُذنبوا ، لخشيتُ عليكم ما هو أعظم ، العُجْبَ العُجْبَ )) (2) . أي المرء إذا كان دائماً كل ما يفعله صواب ، وكل ما يقوله صحيح ، وكل ما يدعو إليه حق ولا يخطئ ، لأصابه العجب بالنفس والكبر ، لكن الله سبحانه وتعالى يذل النفوس بالذنوب ، فتنكسر بين يديه سبحانه وتعالى نادمة خاضعة، طالبة العفو والصفح والمغفرة ، وهذا فيه نفع عظيم لنفوس البشر .
وأيضاً : الإنسان إذا كان دائماً لا يخطئ فلا يتوب ، لم تظهر آثار أسماء الله الحسنى (( الغفور والرحيم والعفو والتواب ))كل هذه أسماء لها آثار ولها مقتضيات ، فإذا كان الناس لا يذنبون لم تظهر آثار هذه الأسماء الحسنى وجاء في صحيح مسلم (1) (( لو لم تُذْنبوا ، لذهب الله بكم ، وجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون ، فيغفر الله لهم )) .
وقد جاءت أحاديث فيما مضى موافقة لهذه الكلمة كما ذكرنا ، وسيأتي أيضاً مثلها .
وفي الحديث أيضاً : أن من العلم ما يجوز كتمانه ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام رَضِي بأن يُكتم هذا العلم عن الناس ، لأنه يضرهم . ولهذا قال العلماء: أن العالم ينبغي له أن يحدث الناس على قدر عقولهم ، كما قال على بن أبي طالب : (( حدَّثوا الناس بما يعرفون ، أّتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله )) (2)
أي حدثوا الناس على قدر عقولهم ، ولا تحدثونهم بما لا تطيقه عقولهم ولا يفهمونه، فيقعون في تكذيب آيات الله .
وروى مسلم عن ابن مسعود : ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم ، إلاكان لبعضهم فتنة .
وهذا من الحكمة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها في قوله (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ))[ سورة النحل : 125 ]
فإذا حدثنا إنساناً قد أسلم حديثاً ، فإننا قد نكتم عنه بعض العلم الذي لا يصلح له أن يعلمه الآن ، ويؤخر حتى يقوى إيمانه ، ويشتد عوده ويصلب .
——————————————————————————–
(1) وهو قوله تعالى (( أن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم )) البقرة: ( 159ـ 160 ) . وقوله صلى الله عليه وسلم : من كتم علماً ، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار رواه ابن حبان والحاكم وقال : صحيح لاغبار عليه . وانظر صحيح الترغيب (121) .
(1) أخرجه البخاري في الوضوء ( 1 / 282 ) ومسلم ( 3 / 106 ـ نووي ) .
(1) حديث حسن ، رواه الطبراني في الأوسط ، انظر السلسلة الصحيحة ( 4 / 1802 ) .
(2) الترغيب والترهيب للمنذري .
(1) ( 17 / 70 ـ نووي ) .
(2) رواه البخاري في العلم باب : من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا ( 1 / 225 ) تعليقاً بصيغة الجزم ، ، ورواه موصولاً أبو نعيم في المستخرج ، انظر الفتح .