دفاع عن الحديث النبوي وحملته
من سبقك يافضيلة الشيخ إلى الطعن في هذا الصحابي؟
الحمد لله الذي بعث النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه أفضل الصلاة وأتم تسليم.
وبعد: لقد استغربت كما استغرب الكثيرون من إخواننا ما نشر في صحيفة >الوطن< بتاريخ 92/5/4002 على لسان الشيخ د. محمد سليمان الأشقر من تهجم على الصحابي الجليل أبي بكرة – رضي الله عنه وأرضاه – ضمن مقال حول مشاركة المرأة في المجالس النيابية ونحوها، وطعن في صحيح الإمام البخاري – رحمه الله تعالى – مما يفتح باباً واسعاً لمن قلّت معرفته بالدين والعلم الشرعي للطعن في السنة النبوية الشريفة ورجالاتها، ولمن كان في قلبه مرض على خيار الأمة وسادات المؤمنين من صحابة المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين.
فنقول رداً على ما جاء في مقاله، بعد معونة الله عز وجل وتوفيقه:
أولاً: من أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما وصفهم الله به في قوله تعالى -والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم- -الحشر:01-.
وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله >لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهباً، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه< متفق عليه.
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم. قاله شيخ الإسلام والمسلمين ابن تيمية رحمه الله تعالى-1- أي: إن من أصول أهل السنة والجماعة التي فارقوا بها من عداهم من أهل الزيغ والضلال، أنهم لا يُزرون بأحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يطعنون عليه، ولا يحملون له حقداً ولا بغضاً ولا احتقاراً، فقلوبهم وألسنتهم من ذلك كله براء، ولا يقولون فيهم إلا ما حكاه الله عنه بقوله -ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم-.
فهذا الدعاء الصادر ممن جاء بعدهم ممن اتبعوهم بإحسان، يدلُّ على كمال مجتمعهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثنائهم عليهم، وهم أهل لذلك الحب والتكريم، لفضلهم وسبقهم، وعظيم سابقتهم، واختصاصهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ولإحسانهم إلى جميع الأمة، لأنهم المبلغون لهم جميع ما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم فما وصل لأحدٍ علم ولا خبر إلا بواسطتهم، وهم يوقرونهم أيضاً طاعة للنبي صلى الله عليه وسلم ، حيث نهى عن سبهم والغضِّ منهم، وبين أن العمل القليل من أحد أصحابه يفضل العمل الكثير من غيرهم، وذلك لكمال إخلاصهم، وصادق إيمانهم-2-.
ومما قال الله تعالى فيهم -محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركَّعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً- -الفتح:92-.
وقال سبحانه وتعالى -والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم- -التوبة:001-.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : >النجوم آمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون<-3-.
– أما عدا التهم فعليها إجماع أهل السنة والجماعة، إذ ليس بعد تعديل الله تعالى لهم تعديل، كما مر بيانه في الآيات السابقة والأحاديث النبوية، وعليه إجماع المسلمين.
قال الإمام ابن حزم: >وكلهم عدل إمام فاضل، فرض علينا توقيرهم وتعظيمهم وأن نستغفر لهم ونحبهم….<.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن سنته ستنقل وستقبل، وقد تمَّ ذلك عن طريقهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فقال عليه الصلاة والسلام: >تسمعون ويُسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم<-4-.
وكان صلى الله عليه وسلم يحض الصحابة على نقل السنن عنه كما قال صلى الله عليه وسلم : >نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع<-5-.
وقد نفى المصطفى صلى الله عليه وسلم تهمة الكذب عن الصحابة في الرواية عنه، وذلك فيما رواه أبوهريرة رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: >سيكون في آخر الزمان ناس من أمتي يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم<.
وفي لفظ: >يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتوكم من الأحاديث ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلوكم ولا يفتنوكم<-6-.
قال ابن أبي حاتم: >لما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكذابين يكونون في آخر الزمان، يكذبون عليه، علم أن الأول – وهم أصحابه – خارجون من هذه الجملة، وزائل عنهم التهمة<-7- – وكيف يمكن أن يظن بالصحابة الوقوع في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وهم قد رووا عنه بالتواتر قوله: >من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار<؟!!
وكانوا أشد الخلق احترازاً في نقل حديث صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم لمن عرف حالهم، ووقف على سيرهم وأخبارهم، وأشدهم خوفاً من الله تعالى من الوقوع في الزيادة أو النقصان في حديثه عليه الصلاة والسلام.
-وما ذكره الشيخ الأشقر من انطباق وصف الفسق والكذب على الصحابي الجليل أبي بكرة – رضي الله عنه – وأرضاه يخالف ما ذكرناه من الأدلة من الكتاب والسنة عموماً: كما يخالف ما قاله من ترجم لهذا الصحابي الكريم من أئمة الإسلام.
قال الذهبي في تجريد أسماء الصحابة: أبوبكرة نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي، من فضلاء الصحابة بالبصرة، مشهور-8-.
وقال في السير: وكان من فضلاء الصحابة-9-.
وقال الحافظ ابن حجر في >الإصابة في تمييز الصحابة<: مشهور بكنيته، وكان من فضلاء الصحابة، وسكن البصرة، وأنجب أولاداً لهم شهرة، وكان تدلّى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حض بالطائف ببكرة، فاشتهر بأبي بكرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أولاده-01-.
-فمن سبقك يافضيلة الشيخ إلى الطعن في هذا الصحابي الجليل أوردّ روايته جملة بما فيها هذا الحديث الذي امتحن الله تعالى به طائفة من أهل زماننا؟!
ثانياً: وأما طعنه في الإمام البخاري بقوله: >وتصحيح البخاري وغيره لهذا الحديث وغيره من مرويات أبي بكرة رضي الله عنه، هو أمر غريب!! لا ينبغي أن يقبل بحال!!<.
فهو من غرائب الزمان، وتقلب الأحوال، نسأل الله تعالى الثبات على الحق حتى الممات لجميع المسلمين.
فلقد اتفقت كلمة الحفاظ من أهل الحديث والفقهاء والعلماء، والراسخين في العلم من السلف والخلف على أن أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى: كتابا البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وأن جميع ما في هذين الكتابين مما روياه بالإسناد المتصل المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحيح، والجزم به مقطوع، وهذه بعض النقول عنهم في هذا:
قال الحافظ أبونصر الوائلي السجزي: >أجمع أهل العلم وغيرهم: أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صح عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاله: لا شك فيه، لا يحنث والمرأة بحالها في حبالته<.
وقال إمام الحرمين: لو حَلَف إنسان بطلاق امرأته أن ما في الصحيحين مما حكما بصحته، من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، لما ألزمته الطلاق، لإجماع المسلمين على صحته-11-.
وقال الإمام أبواسحق الأسفراييني: أهل الضعة مجمعون، على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها ورواتها< ثم قال وهو مهم جداً: >فمن خالف حكمه خبراً منها، وليس له تأويل سائغ للخبر، نقضنا حكمه، لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول<. وقد كان السلف يهجرون من يعارض السنن بالآراء.
وقال الإمام النووي: >وأجمعت الأمة على صحة هذين الكتابين ووجوب العمل بأحاديثهما<-21-.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: >فإن الذي اتفق عليه أهل العلم: أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ومسلم، وإنما كان هذان الكتابان كذلك، لأنه جرّد فيهما الحديث الصحيح المسند<-31-.
وقال شاه ولي الله الدهلوي: أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع، صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأنه كل من يهون من أمرهما، فهو مبتدع، متبع غير سبيل المؤمنين<.
وكلام أهل العلم في هذا لا يدخل تحت الحصر-41-.
وإذا تشكك الناس في البخاري ومسلم، فماذا يقال في السنن الأربعة، وماذا يقول في مسند الإمام أحمد، وماذا يقال بعد ذلك في بقية دواوين السنة المطهرة؟!!
وأما الإمام البخاري وعلمه وحفظه وإتقانه فأشهر من أن يذكر، ولكن نذكر ببعض سيرته رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
فقد قال عنه إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل يعني البخاري. وهذا وحده يكفي.
وقال محمد بن بشار شيخ البخاري ومسلم: حفاظ الدنيا أربعة: أبوزرعة الرازي بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبدالله بن عبدالرحمن الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى.
وقال عبدالله بن محمد المسندي: محمد بن إسماعيل إمام، فمن لم يجعله إماماً فاتهمه.
وقال أبوحامد الأعمش: رأيت محمد بن إسماعيل البخاري في جنازة، ومحمد بن يحيى الذهلي شيخه يسأله عن الأسماء والكنى وعلل الحديث، والبخاري يمر فيها مثل السهم، كأنه يقرأ -قل هو الله أحد-.
وقال أبوعيسى الترمذي: لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل.
وقال محمد بن اسحق بن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد بن إسماعيل البخاري.
وأقوال الأئمة فيه لا تستقصى، وعيون مناقبه لا تحصى. وشأن من يقدح فيه وفي علمه كما قال الأعشى:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
أو كما قال الآخر:
ياناطح الجبل العالي ليكلمه أَشفق على الرأس لا تُشفق على الجبل