الجواب الشافي عن أسئلة المعهد الثقافي
مقدمة (1)
الحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
أما بعد :
فقد أطلعني الأخوة الأفاضل في مجلة الفرقان الغراء على الرسالة التي بعث بها الأخوة في المعهد الثقافي….وفقنا الله وإياهم للعمل بكتابه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي سلفنا الكرام وجميع إخواننا إلى يوم نلقاه ، والتي أبدى فيها بعض ملاحظاته حول بحث الإرهاب الذي نشر في الفرقان في الأعداد (51 ، 52 ، 53 ) وقد أصاب في قوله : إن التفريط هو الشق الآخر من التطرف ، فقد نقل ابن القيم في كتابه { إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان } ص (116) عن بعض السلف قوله : ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان ، إما إلى تفريط وتقصير ، وإما إلى مجاوزة وغلو ، ولا يبالي بأيهما ظفر .
ثم قال ابن القيم رحمه الله :وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين:وادي التقصير ، ووادي المجاوزة والتعدي ، والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله r وأصحابه .
وأشار في الرسالة إلى الخوارج ، وأنه قد جرى إطلاق هذا الاسم على من لا يستحقه من الجماعات الإسلامية ، وذكر مسألة الخروج على الحاكم الظالم والكافر ، وتساءل عن ماذا نعتقد في خروج الحسين رضي الله عنه وابن الأشعث وسعيد بن جبير والشعبي .. وغيرهم .
ولما كانت هذه المسألة من المسائل المهمة في الدين والخطرة في آن واحد ، لما يترتب على الخطأ فيها من حصول الفتن والمفاسد العظيمة ، كما هو الحال منذ خروج بعض الناس على عثمان رضي الله عنه وانتهى الأمر بقتله ، إلى يومنا هذا كما هو الحاصل من بعض الجماعات الإسلامية في أنحاء من بلاد المسلمين .
ولكي تتضح الأمور ، ويتسنى لنا معرفة الحق في المسألة ، نبدأ بتعريف الخوارج وأصل بدعتهم وأنواعهم ، ثم نذكر معتقد السلف في الخروج على ولاة الأمور ، ثم نختم بذكر بعض من خرج من الصالحين على الأئمة وقول العلماء فيما صنعوا .
فنقول مستعينين بالله القوي المتين :
الخوارج : جمع خارجة ، أي طائفة ، وهم قوم مبتدعون سمُّوا بذلك لخروجهم عن الدِّين ، وخروجهم على خيار المسلمين (2).
وأصل بدعتهم : أنهم كفروا علياً رضي الله عنه بالتحكيم الذي حصل بينه وبين معاوية رضي الله عنه وأرادوا خلعه وخرجوا عليه فسمُّوا خوارج (3) .
وقال الرافعي : إنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله ، أو مواطأته إياهم (4) .
ورده الحافظ ابن حجر فقال : كذا قال ! وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار ، فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان ، بل كانوا ينكرون عليه أشياء ويتبرؤن منه ثم قال : وأصل ذلك ( أي بدعتهم ) أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك ، وكان يقال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نشر في مجلة الفرقان الكويتية الغراء ، الحلقة الأولى العدد (55) السنة السادسة جمادى الأولى 1415هـ الموافق لشهر 11/1994م والحلقة الثانية في العدد (56) .
(2) فتح الباري ( 12/ 283 ).
(3) ينظر مقالات الإسلامين لأبي الحسن الأشعري (ص 4-5 ) .
(4) الفتح ( 12/ 283 ) .
لهم القرَّاء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة ، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه ، ويستبدون برأيهم ، ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك ، فلما قُتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه ، اعتقدوا إمامة علي وكُفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير ، فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا علياً فلقيا عائشة وكانت حجَّت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان ، وخرجوا إلى البصرة يَدْعون الناس إلى ذلك ، فبلغ علياً فخرج إليهم فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة ، وانتصر علي وقُتِل طلحة في المعركة ، وقُتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة ، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالإتفاق (1) .
ثم ذكر حادثة التحكيم وإنكار الخوارج على علي قبولها ، ومفارقتهم له وهم قريب من ثمانية آلاف ، ثم نزولهم مكاناً يقال له : حروراء ، وإرسال علي ابن عباس لمناظرتهم فرجع كثير منهم معه ، وأرسل علي الباقين في أن يرجعوا فأصروا على الإمتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب ! ثم راسلهم فأرادوا قتل رسوله ، ثم اجتمعوا على أنَّ من لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله ، وانتقلوا إلى الفعل ، فاستعرضوا الناس فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين ، ومرَّ بهم عبد الله بن خباب بن الأرت وكان والياً على بعض تلك البلاد ومعه سُرِّية ( جارية ) وهي حامل فقتلوه وبقروا بطن سُريته عن ولد ، فبلغ ذلك علياً فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام ، فأوقع بهم في النهروان ، ولم ينج منهم إلا دون العشرة ، ولا قُتل ممن معه إلا نحو العشرة … فهذا ملخص أول أمرهم .
ثم انضم إلى من بقي منهم مَن مَال إلى رأيهم ، فكانوا مختفين في بقية خلافة علي ، حتى كان منهم عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل علياً رضي الله عنه في صلاة الصبح (2) .
وقال أبو بكر بن العربي : الخوارج صنفان : أحدهما : يزعم أن عثمان وعلياً وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم كفار ! ، والآخر : يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبداً .
وتُعقِّب بأن الصنف الأول متفرع عن الصنف الثاني ، لأن الحامل لهم على التكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم .
واختلف العلماء في حكم الخوارج على وجهين : أحدهما : أنه كحكم أهل الردة ، والثاني : أنه كحكم أهل البغي (3) ، قال الحافظ ابن حجر : ورجح الرافعي الأول ، وليس الذي قاله مطَّردا في كل خارجي ، فإنهم على قسمين :
أحدهما : من تقدم ذكره ( في أول البحث ) .
والثاني : من خرج في طلب المُلك ، لا للدعاء إلى معتقده .
وهم قسمين أيضاً :
قسم خرجوا غضباً للدين من أجل جَور الولاة ، وترك عملهم بالسنة النبوية فهؤلاء أهل حق ، ومنهم الحسن بن علي وأهل المدينة في الحرة ، والقراء الذين خرجوا على الحجاج .
وقسم خرجوا لطلب الملك فقط ، سواء كانت فيهم شبهة أم لا ، وهم البغاة انتهى (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفتح ( 12/ 283 – 284 ) .
(2) ينظر المصدر السابق .
(3) قال الموفق ابن قدامة في المغني (10/49) : الخوارج الذين يكفرون بالذنب … فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة ، حُكمهم حكمهم ، هذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث ، ومالك يرى استتابتهم فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون … وذكر أدلتهم ثم رجح القول الأول ونقل عن ابن المنذر قوله : لا أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين .
(4) الفتح : (12/286 ) .
· ويجب التنبه إلى أن قول الحافظ عن القسم الأول أنهم أهل حق يعني في غضبهم للدين وترك العمل بالسنة ، لا في خروجهم على الولاة ، لأن الخروج على أئمة الجور مما يخالف عقيدة أهل السنة والجماعة ، فإنهم نصُّوا على تركه ، كما قال الطحاوي في عقيدته المشهورة : ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا ، وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ، مالم يأمروا بمعصية ، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة .
قال شارحها ابن أبي العز رحمه الله : وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا ، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم ، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ، ومضاعفة الأجور ، فإن الله تعالى ما سلَّطهم علينا إلا لفساد أعمالنا ، والجزاء من جنس العمل ، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل ، قال تعالى : } وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير {{ الشورى : 30 } ، وقال تعالى : } ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك {{ النساء : 79 } ، وقال تعالى : } وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون {{ الأنعام : 129 } ، فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم فليتركوا الظلم .
وعن مالك بن دينار : أنه جاء في بعض كتب الله : أنا الله مالك الملك ، قلوب الملوك بيدي ، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسبِّ الملوك ، ولكن توبوا أعطفهم عليكم (1) .
وهذا أيضا ما نقل عن الإمام أحمد .
قال حنبل : اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله ، وقالوا : إن الأمر قد تفاقم وفشا – يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك – ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه ، فناظرهم في ذلك ، وقال : عليكم بالنكرة في قلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ، ولا تسفكوا دمائكم ودماء المسلمين معكم ، وانظروا في عاقبة أمركم ، واصبروا حتى يستريح برٌّ أو يستراح من فاجر ، قال : ليس هذا بصواب ، هذا خلاف الآثار .
وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله يأمر بكف ، الدماء وينكر الخروج إنكاراً شديداً .
وقال في رواية إسماعيل بن سعيد : الكف ، لأنا نجد عن النبي r : ما صلوا فلا خلافاً للمتكلمين في جواز قتالهم كالبغاة .
قال القاضي : والفرق بينهما من جهة الظاهر والمعنى ، أما الظاهر : فإن الله تعالى أمر بقتال البغاة بقوله تعالى : } وإن طائفتان { {الحجرات : 9} ، وفي مسألتنا أمر بالكف عن الأئمة بالأخبار المذكورة ، وأما المعنى : فإن الخوارج يقاتلون بالإمام ، وفي مسألتنا يحصل قتالهم بغير إمام فلم يجز ، كما لم يجز الجهاد بغير إمام . انتهى كلامه (2) .
وقال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري إمام أهل السنة في عصره المتوفى سنة (329 هـ ) في كتابه شرح السنة : ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين ، فهو خارجي وقد عصا المسلمين ، وخالف الآثار وميتته ميتة جاهلية .
ولا يحل قتال السلطان ، والخروج عليهم وإن جاروا ، وذلك قول رسول الله r لأبي ذر الغفاري : اصبروا وإن كان عبداً حبشياً. [ أخرجه مسلم بنحوه ] ، وقوله للأنصار : اصبروا حتى تلقوني على الحوض . [ متفق عليه ] ، وليس في السنة قتال السلطان ، فإن فيه فساد الدين والدنيا اهـ (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح العقيدة الطحاوية ( ص 429 – 430 ) .
(2) الآداب الشرعية الجزء الأول ( ص 169 – 197 ) .
(3) شرح السنة ( ص 87 ) بتحقيق خالد الردادي .
وقد استدل أهل السنة فيما ذهبوا إليه من تحريم الخروج على الإمام وإن ظلم ، بأحاديث منها :
1- حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : دعانا رسول الله r فبايعناه ، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في مَنْشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأَثَرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، قال : إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان (1) .
قال النووي في شرحه لهذا الحديث : وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين ، وإن كانوا فسقة ظالمين وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته ، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق (2) .
2- حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله r قال : من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه ، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه ، إلا مات ميتة جاهلية (3) .
3- حديث أم سلمة رضي الله عنها عن النبي r أنه قال : إنه يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع قالوا : يا رسول الله ، ألا نقاتلهم ؟ قال : لا ما صلوا (4) .
وهذا ما تقرر عند العلماء من أهل السنة ، بل نقل النووي اتفاقهم عليه كما مرَّ آنفا .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وأما الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها ، ونهى النبي r عن قتالهم فإن قيل أنهم كانوا يؤخرون … فقد أمر النبي r الأمة بالصلاة في الوقت وقال : اجعلوا صلاتكم معهم نافلة ونهى عن قتالهم ، كما نهى عن قتال الأئمة إذا استأثروا وظلموا الناس حقوقهم واعتدوا عليهم ، وإن كان يقع من الكبائر أثناء ذلك ما يقع .
ومؤخرها عن وقتها فاسق ، والأئمة لا يقاتلون بمجرد الفسق ، وإن كان الواحد المقدور عليه ( يعني من أفراد الناس ) قد يُقْتل لبعض أنواع الفسق : كالزنا وغيره ، فليس كلما جاز فيه القتل جاز أن يقتل الأئمة لفعلهم إياه ، إذ فساد القتال أعظم من فساد كبيرة يرتكبها ولي الأمر (5) .
وقال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله :
إن النبي r شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل – بإنكاره – من المعروف ما يحبه الله ورسوله ، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله ، فإنه لا يسوغ إنكاره ، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله ، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم ، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر ، وقد استأذن الصحابة رسول الله r في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها ، قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ فقال : لا ، ما أقاموا الصلاة وقال : ومن رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ، ولا ينزعن يداً من طاعته .
ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار ، رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر ، فطُلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغيرها ، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم ، ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك ، لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر ، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد ، لما يترتب عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه مسلم في الإمارة ( 3/1470 ) .
(2) شرح مسلم ( 12/229 ) ، وهو ما اختاره أبو يعلى في الأحكام السلطانية ( ص 20 ) والجويني في غياث الأمم ( ص 100- 105 ) وابن جماعة في تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام ( ص 72 ) وغيرهم كما سيأتي .
(3) رواه البخاري ( 13/5 ، 121 ) ومسلم ( 3/ 1478 ) .
(4) رواه مسلم ( 3/ 1481 ) .
(5) مجموع الفتاوى ( 22/ 61 ) .
من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء (1) .
· وأما الحاكم الذي ظهر منه الكفر البواح ، وهو الكفر الظاهر الذي يُعلم من قواعد الإسلام ، فقد قال القاضي عياض : أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل ، قال : وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها .
وقال : فلو طرأ عليه الكفر وتغيير الشرع أو بدعة ، خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل ، إن أمكنهم ذلك ، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه ، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام ، وليهاجر المسلم من أرضه إلى غيرها ويفر بدينه (2) .
فلا يجب الخروج على الكافر إلا إذا تحقق أهل الإسلام القدرة على ذلك بالعدد والعُدَّة ، وهو مالا يكون في غالب الأحوال لاسيما في هذا الزمان ، لوجود الشوكة والقوة بيد السلطان ، ولما في الخروج عليه من فساد الأحوال ، واضطراب الأمور وضياع الأمان وإراقة الدماء ، وقد تقرر أن الشريعة قد جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وفي ترك النبي r للخروج وهو بمكة دليل على هذا ، والله أعلم
وأما مسألة خروج بعض السلف على الحجاج الثقفي الظالم ، فهي مسألة قد اجتهدوا فيها وأخطأوا والله تعالى يغفر لنا ولهم ، ولم أجد في هذا المقام من تكلم على هذه المسألة فأجاد مثل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى وأجزل مثوبته ، فقد قال في كتابه النفيس منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية بعد كلام له في الصلاة خلف الإمام بَرَّاً كان أو فاجراً والجهاد معه ، قال :
ففي الجملة أهل السنة يجتهدون في طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان ، كما قال تعالى : } فاتقوا الله ما استطعتم { { التغابن :16 } ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، ويعلمون أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بصلاح العباد في المعاش والمعاد ، وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد ، فإذا كان الفعل فيه صلاح وفساد رجّحوا الراجح منهما ، فإذا كان صلاحه أكثر من فساده رجّحوا فعله ، وإن كان فساده أكثر من صلاحه رجّحوا تركه .
فإن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها . فإذا تولى خليفة من الخلفاء ، كيزيد وعبد الملك والمنصور وغيرهم ، فإما أن يقال : يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يُولّي غيره كما يفعله من يرى السيف ، فهذا رأي فاسد ، فإن مفسدة هذا أعظم من مصلحته .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إعلام الموقعين ( 3/ 4 ) .
(2) نقله النووي في شرحه ( 12/ 229 ) .
وقوله : ولا يجب في المبتدع … إلخ ، يرده حديث عبادة بن الصامت إلا أن تروا كفراً بواحاً إلا إذا كان المراد بالبدعة : المكفرة من غير تأويل .
وقلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولدعلى فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير ، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق ، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخرسان ، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضاً ، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء .
وغاية هؤلاء إما أن يُغلبوا ، وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة ، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقاً كثيراً ، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور .
وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم ، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا . والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا ، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة ، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم ، ومع هذا لم يُحمدوا ما فعلوا من القتال ، وهم أعظم قدراً عند الله ، وأحسن نية من غيرهم .
وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق ، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين ، والله يغفر لهم كلهم .
وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث : أين كنت يا عامر ؟ قال : كنت حيث يقول الشاعر :
عَوى الذئبُ فاستَأنستُ بالذئب إذ عَوَى
وصوَّت إنسـانٌ فكـدتُ أطيـــر
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ، ولا فجرة أقوياء .
وكان الحسن البصري يقول : إن الحجاج عذاب الله ، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ، ولكن عليكم بالإستكانة والتضرع ، فإن الله تعالى يقول : } ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون { { المؤمنون : 76 } ، وكان طلق بن حبيب يقول : اتقوا الفتنة بالتقوى ، فقيل له : أّجْملْ لنا التقوى ؟ فقال : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ، ترجو رحمة الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله . رواه أحمد وابن أبي الدنيا
وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة ، كما كان عبد الله بن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وعلي بن الحسين ، وغيرهم ينهون عام الحَرَّة عن الخروج على يزيد ، وكما كان الحسن البصري ، ومجاهد ، وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة الأشعث .
ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي r ، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جَور الأئمة وترك قتالهم ، وإن كان قد قاتل في الفتنة خَلقٌ كثير من أهل العلم والدين .
وبابُ قتال أهل البغي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يشتبه بالقتال في الفتنة ، وليس هذا موضع بسطه ، ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، واعتبر أيضاً اعتبار أولي الأبصار ، عَلِم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور.
ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لمَّا كاتبوه كُتبا كثيرة ، أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين ، كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج ، غلب على ظنهم أنه يقتل ، حتى إن بعضهم قال : استودعك الله من قتيل ، وقال بعضهم : لولا الشفاعة لأمسكتُك ومنعتك من الخروج ، وهم في ذلك قاصدون نصيحته ، طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين .
والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد ، لكن الرأي يصيب تارة ويخطئ أخرى ، فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك الظلمة الطغاة من سِبْط رسول الله r حتى قتلوه مظلوماً شهيداً ، وكان في خروجه وقتله من الفساد مالم يكن حصل لو قعد في بلده ، فإن ما قصده من تحصيل الخير ، ودفع الشر لم يحصل منه شيء ، بل زاد الشر بخروجه وقتله ، ونقص الخير بذلك ، وصار ذلك سبباً لشر عظيم ، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن ، كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن .
وهذا كله مما تبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم ، هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد ، وأن من خالف ذلك متعمداً أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح بل فساد ، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله : إن ابني هذا سيدٌ ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين .
ولم يُثن على أحد لا بقتال في فتنة ، ولا بخروج على الأئمة ولا نزاع يد من طاعة ولا مفارقة للجماعة ، وأحاديث النبي r الثابتة في الصحيح كلها تدل على هذا كما في صحيح البخاري من حديث الحسن البصري : سمعت أبا بكرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن جنبه ينظُر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول : إن ابني هذا سيدٌ ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . (1)
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد ، وحقق ما أشار إليه من أن الله يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ، وهذا يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان محبوباً ممدوحاً يحبه الله ورسوله ، وأنَّ ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي r ولو كان القتال واجباً أو مستحباً ، لم يثن النبي r على أحد بترك واجب أو مستحب .
ولهذا لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بما جرى من القتال يوم الجمل وصفين ، فضلاً عما جرى في المدينة يوم الحرة ، وما جرى بمكة في حصار ابن الزبير ، وما جرى في فتنة ابن الأشعث وابن المهلب وغير ذلك من الفتن .
ولكن تواتر عنه أنه أمر بقتال الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنهروان بعد خروجهم عليه بحروراء ، فهؤلاء استفاضت السنن عن النبي r بالأمر بقتالهم ، ولما قاتلهم علي رضي الله عنه فَرِحَ بقتالهم ، وروى الحديث فيهم ، واتفق الصحابة على قتال هؤلاء ، وكذلك أئمة أهل العلم بعدهم ، لم يكن هذا القتال عندهم كقتال أهل الجمل وصفين وغيرهما ، مما لم يأت فيه نص ولا إجماع ، ولا حَمَده أفاضل الداخلين فيه ، بل ندموا عليه ورجعوا عنه ، وكذلك الحسن كان دائماً يشير على أبيه وأخيه بترك القتال ، ولما صار الأمر إليه ترك القتال ، أصلح الله به بين الطائفتين المقتتلتين .
وعلي رضي الله عنه في آخر الأمر تبين له أن المصلحة في ترك القتال ، أعظم منها في فعله ، وكذلك الحسين رضي الله عنه لم يُقتل إلا مظلوماً شهيداً ، وتاركاً لطلب الإمارة ، طالباً للرجوع : إما إلى بلده ، أو إلى الثغر ، أو إلى المتولي إلى الناس يزيد (2) ، وإذا قال القائل : إن علياً والحسين إنما تركا القتال في آخر الأمر للعجز ، لأنه لم يكن لهما أنصار ، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة .
قيل له : وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع r في النهي عن الخروج على الأمراء ، وندب إلى ترك القتال في الفتنة ، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كالذين خرجوا بالحرة وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه ، صار إزالته على هذا الوجه منكراً ، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف ، كأن يحصل ذلك المعروف على هذا الوجه منكراً .
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري في الصلح ( 5/307 ) وفي المناقب ( 6/628 ) وفي فضائل الصحابة ( 7/94 ) والفتن ( 13/61 ) وأصحاب السنن الثلاثة من حديث أبي بكرة رضي الله عنه .
(2) أي لما انكشف له الحال ، وتبينت له الأمور على حقيقتها في آخر المطاف ، طلب الرجوع إلى بلده وأراد ترك الإمارة ، ولكن لم يعط ذلك رضي الله عنه ، وأجبر على القتال .
وبهذا الوجه صارت الخوارج تستحل السيف على أهل القبلة ، حتى قاتلت علياً وغيره من المسلمين ، وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف في الجملة من المعتزلة والزيدية والفقهاء وغيرهم ، كالذين خرجوا مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسين ، وأخيه إبراهيم ابن عبد الله بن حسن بن حسين ، وغير هؤلاء ، فإن أهل الديانة من هؤلاء يقصدون تحصيل ما يرونه دينا .
لكن قد يخطئون من وجهين :
أحدهما : أن يكون ما رأوه ديناً ليس بدين ، كرأي الخوارج وغيرهم من أهل الأهواء ، فإنهم يعتقدون رأياً هو خطأ وبدعة ، ويقاتلون الناس عليه ، بل يكفرون من خالفهم ، فيصيرون مخطئين في رأيهم ، وفي قتال من خالفهم أو تكفيرهم ولعنهم .
الوجه الثاني : من يُقاتل على اعتقاد رأي يدعوا إليه مخالف للسنة والجماعة وغيرهم ، لكن يظن أنه بالقتال تحصل المصلحة المطلوبة فلا يحصل بالقتال ذلك ، بل تعظم المفسدة أكثر مما كانت ، فيتبين لهم في آخر الأمر ما كان الشارع دلّ عليه من أول الأمر .
ومما ينبغي أن يُعلم أن أسباب هذه الفتن تكون مشتركة ، فيَرِد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية ، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق ولا قصده .
والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح ، بمعرفة الحق وقصده ، فيتفق أن بعض الولاة يظلم باستئثار فلا تصبر النفوس على ظلمه ، ولا يمكنها دفع ظلمة إلا بما هو أعظم فساداً منه ، ولكن لأجل محبة الإنسان لأخذ حقه ودفع الظلم عنه ، لا ينظر في الفساد العام الذي يتولد عن فعله ،ولهذا قال النبي r : إنكم ستَلْقَون بعدي أَثَرةً فاصبروا حتى تلقوني على الحوض .
انتهى كلامه رحمه الله تعالى (1)
والجواب عن المسائل السابقة يحتاج لمزيد من البسط والتفصيل ، وقد آثرت الإختصار قدر المستطاع خشية الملال بالطول .
وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم