مسائل في الاعتصام 12
المسألة الثانية عشرة
وجوب إجراء النصوص على ظاهرها وحقيقتها
ظاهر النصوص: ما يتبادر منها من المعاني المعروفة عند العرب، بحسب ما تضاف إليه، و ما يحتف بها من القرائن.
و الواجب في النصوص إجراؤها على ظاهرها، بدون تحريف و لا تعطيل، و لا تكييف و تمثيل.
الأدلة من القرآن:
1- قال الله عز وجل: ]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل:89). قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذَرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُّبِينٍ [ (الشعراء:192-195).
2- و قال عز وجل: ]وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ (النحل:64).
و قال سبحانه: ]اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِّنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [ (الأعراف: 3).
3- و قال سبحانه: ] وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ (النحل: 44).
4- و قال عز وجل: ]إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[ (الزخرف: 3).
و قد سبق بيان هذه الآيات سابقاً.
فإذا كان الله تعالى أنزله باللسان العربي من أجل عقله و فهمه، و أمرنا باتباعه ، وجب علينا إجراؤه على ظاهره، بمقتضى اللسان العربي ، إلا أن تمنع منه حقيقة شرعية.
و لا فرق في هذا بين نصوص الصفات و غيرها، بل قد يكون وجوب التزام الظاهر في نصوص الأسماء و الصفات أولى و أظهر، لأن مدلولها توقيفي محض، لا مجال للعقول في تفاصيله (1).
فإن قال قائل: في نصوص الصفات لا يجوز إجراؤها على ظاهرها، لأن ظاهرها غير مراد.
فجوابه أن يقال: ماذا تريد بالظاهر؟ أتريد ما يظهر من النصوص من المعاني اللائقة بالله من غير تمثيل فهذا الظاهر مراد الله و رسوله قطعاً، و واجب على العباد قبوله، و الإيمان به شرعاً، لأنه حق ، و لا يمكن أن يخاطب الله عباده بما يريد منهم خلاف ظاهره ، بدون بيان كيف ، وقد قال: ]يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ (النساء: 26)، و قال: ] يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا [ (النساء: 176)، ويقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم: ]وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [ (النحل: 44)، و يقول: ]وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ (الشورى:52). و من خاطب غيره بما يريد منه خلاف ظاهره ، بدون بيان فإنه لم يبين له ولم يهده.
أم تريد بالظاهر ما فهمته من التمثيل، فهذا غير مراد لكنه ليس ظاهر نصوص الكتاب
و السنة، لأن هذا الظاهر الذي فهمته كفر و باطل بالنص و الإجماع، و لا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله و رسوله كفراً وباطلاً و لا يرتضي ذلك أحد من المسلمين.
و قد اتفق سلف الأمة و أئمتها : على أن نصوص الصفات تجري على ظاهرها اللائق بالله عزوجل من غير تحريف، و أن ظاهرها لايقتضي تمثيل الخالق بالمخلوق، فاتفقوا على أن لله تعالى حياة، وعلماً و قدرة و سمعاً و بصراً حقيقة، و أنه مستوٍ على عرشه حقيقة، وأنه يحب و يرضى، و يكره و يغضب حقيقة، و أن له وجهاً و يدين حقيقة لقول تعالى: ]وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الذِي لا يَمُوتُ[ (الفرقان: 58). وقوله: ]وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ ،]وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[، ]وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[، و قوله: ]الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [، و قوله: ]فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [، ]رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [، ] وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [، ] وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [، و قوله: ] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإكْرامِ [، ]بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [.
فأجروا هذه النصوص و غيرها من نصوص الصفات على ظاهرها ، و قالوا : إنه مراد على الوجه اللائق بالله تعالى فلا تحريف، و لا تمثيل (2).
v و قال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله في «الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة»:
الفصل الحادي عشر: في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره و حقيقته ينافي قصد البيان، و الإرشاد والهدى، و أن القصدين متنافيان، و أن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى.
لما كان المقصود بالخطاب دلالة السامع، و إفهامه مراد المتكلم بكلامه، و تثبيته ما في نفسه من المعاني، و دلالته عليها بأقرب الطرق كان ذلك موقوفاً على أمرين:
بيان المتكلم، و تمكن السامع من الفهم.
فإن لم يحصل البيان من المتكلم، أو حصل له، و لم يتمكن السامع من الفهم لم يحصل مراد المتكلم، فإذا بيَّن المتكلم مراده، بالألفاظ الدالة على مراده، و لم يعلم السامع معنى تلك الألفاظ، لم يحصل له البيان، فلا بد من تمكن السامع من الفهم، و حصول الإفهام من المتكلم، فحينئذ لو أراد الله و رسوله من كلامه خلاف حقيقته وظاهره الذي يفهمه المخاطب، لكان قد كَلَّفه أن يفهم مراده بما لا يدل عليه، بل بما يدل على نقيض مراده، و أراد منه فهم النفي بما يدل على نقيض مراده، و أراد منه فهم النفي بما يدل على غاية الإثبات و فهم الشيء بما يدل على ضده، و أراد منه أن يفهم أنه ليس فوق العرش إله يعبد، و لا إله يُصلَّى له و يُسجد، و أنه لا داخل العالم و لا خارجه، ولا فوقه و لا تحته و لا خلفه و لا أمامه، بقوله: ] قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ [ (الإخلاص:1)، و قوله : ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ (الشورى: 11).
و أراد إفهام كونه خَلَقَ آدم بقدرته و مشيئته بقوله: ] مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِيَّ[ (ص: 75).
و أراد إفهام معنى مَن ربُّك؟ و مَن تَعْبد؟ بقوله: أين الله؟ وأشار بإصبعه إلى السماء مستشهداً بربه، و ليس هناك رب! و إنما أراد إفهام السامعين أن الله قد سمع قوله و قولهم، و أراد بالإشارة بيان كونه قد سمع قولهم، و أمثال ذلك من التأويلات الباطلة! التي يعلم السامع قطعاً أنها لم ترد بالخطاب بقصد المتكلم لها بتلك الألفاظ الدالة على نقيضها من كل وجه، فلا يجامع قصد البيان و الدلالة (3).
ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، أنه قال:
«إن كان الحق فيما يقوله هؤلاء النفاة الذين لا يوجد ما يقولونه في الكتاب و السنة
و كلام القرون الثلاثة المعظمة على سائر القرون، و لا في كلام أحد من أئمة الإسلام المقتدى بهم، بل ما في الكتاب و السنة و كلام السلف و الأئمة يوجد دالاً على خلاف الحق عندهم ، إما نصاً وإما ظاهراً، بل دالاً عندهم على الكفر والضلال!! لزم من ذلك لوازم باطلة منها:
أ ـ أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه و سنة نبيه من هذه الألفاظ ، ما يضلهم ظاهره و يوقعهم في التشبيه و التمثيل!
ب ـ و منها: أنْ يكون قد نزل بيان الحق و الصواب لهم و لم يفصح به ، بل رمز إليه رمزاً و ألغزه إلغازاً لا يفهم منه ذلك إلا بعد الجهد الجهيد!
ج ـ و منها: أن يكون قد كلف عباده أن لا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها
و ظواهرها، و كلفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه ، ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك.
د ـ و منها: أنْ يكون دائماً متكلماً في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق! بأنواع متنوعة من الخطاب، تارة بأنه استوى على عرشه، و تارة بأنه فوق عباده، و تارة بأنه العلي الأعلى،
و تارة بأن الملائكة تعرج إليه، و تارة بأن الأعمال الصالحة ترفع إليه، و تارة بأن الملائكة في نزولها من العلو إلى أسفل تنزل من عنده، و تارة بأنه رفيع الدرجات، و تارة بأنه في السماء،
و تارة بأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، و تارة بأنه فوق سمواته على عرشه، وتارة بأن الكتاب نزل من عنده، و تارة بأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، و تارة بأنه يرى بالأبصار عياناً، يراه المؤمنون فوق رؤوسهم إلى غير ذلك من تنوع الدلالات على ذلك، و لا يتكلم فيه بكلمة واحدة يوافق ما يقوله النفاة، و لا يقول في مقام واحد فقط ماهو الصواب فيه ، لا نصاً و لا ظاهراً و لا يبينوه!
هـ ـ و منها: أن يكون أفضل الأمة و خير القرون، قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا الشأن العظيم، الذي هو من أهم أصول الإيمان، و ذلك إما جهلٌ ينافي العلم، و إما كتمان ينافي البيان. و لقد أساء الظن بخيار الأمة مَن نَسبَهم إلى ذلك، و معلومٌ أنه إذا ازدوج التكلم بالباطل و السكوت عن بيان الحق، تولَّد من بينهما جهل الحق و إضلال الخلق،
و لهذا لما اعتقد النفاة التعطيل.
و ـ و منها: أنهم التزموا لذلك تجهيلَ السلف و أنهم كانوا أميين مقبلين على الزهد
و العبادة و الورع و التسبيح و قيام الليل ، و لم تكن الحقائق من شأنهم.
ز ـ و منها: أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص ، كان أنفع لهم و أقرب إلى الصواب(4)، فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال ، ولم يستفيدوا منها يقيناً و لا علماً بما يجب لله و يمتنع عليه إذ ذاك، وإنما يستفاد من عقول الرجال و آرائها.
فإن قيل: استفدْنا منها الثواب على تلاوتها و انعقاد الصلاة بها.
قيل: هذا تابع للمقصود بها بالقصد الأول، وهو الهدى و الإرشاد و الدلالة على إثبات حقائقها و معانيها و الإيمان بها، فإن القرآن لم ينزل لمجرد التلاوة و انعقاد الصلاة عليه، بل أنزل ليتدبر و يعقل، ويهدى به علماً و عملاً، و يبصر من العمى، و يرشد من الغي، و يعلم من الجهل، و يشفي من الغي، و يهدي إلى صراط مستقيم. و هذا القصد ينافي قصد تحريفه و تأويله بالتأويلات الباطلة المستكرهة، التي هي من جنس الألغاز و الأحاجي، فلا يجتمع قصد الهدى
و البيان وقصد ما يضاده أبداً، و بالله التوفيق(5).
هذا ما تيسر تحريره الآن، و نسأل الله تعالى المزيد من فضله، إنه ولي الفضل و الطول
و الإحسان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش :
1-تقريب التدمرية ( ص60) للشيخ محمد صالح العثيمين حفظه الله ، بتصرف .
2-المصدر السابق.
3-الصواعق المرسلة (1/310-314) باختصار .
4-على حد قولهم !
5-الصواعق المرسلة (1/314-316) باختصار يسير .