-5-مسائل في الإعتصام بالكتاب والسنة
الإيمان بمحكم الكتاب و السنة و متشابههما، و رد المتشابه إلى المحكم
و هذه الطريقة هي التي يتعين سلوكها، و قد حكاها ربُّنا عن الراسخين في العلم، و ضدها عن الزائغين.
1- قال عز وجل: ] هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلْبَابِ [ (آل عمران:7).
قال الطبري: و أما (المحكمات) فإنهن اللواتي أحكمن بالبيان والتفصيل، و أُثبتتْ حُجَجُهن و أدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلالٍ و حرامٍ، و وعدٍ و وعيدٍ، و ثوابٍ و عقاب، و أمرٍ و زجر، و خبر و مَثل، و عظة و عبر، و ما أشبه ذلك. ثم وصف الله جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن ]أُمُّ الْكِتَابِ[، يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين و الفرائض و الحدود، و سائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، و ما كُلّفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم.
و إنما سماهن أم الكتاب، لأنهن مُعْظم الكتاب، و موضع مفزع أهله عند الحاجة إليه، و كذلك تفعل العرب، تُسمي الجامعَ مُعْظَم الشيء: أُمّاً له، فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر أمهم، والمدبر معظم أمر القرية و البلدة: أمها (1).
و قال ابن كثير: يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هنّ أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه إلى الواضح منه و حكَّم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، و من عكس انعكس.
و لهذا قال: ]هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ[ أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه. ]وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [ أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ و التركيب، لا من حيث المراد(2).
و قال السعدي: هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البَيِّن الذي لا يشتبه بغيره، و منه آياتٌ متشابهات تحتمل بعض المعاني، ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها حتى تُضمَّ إلى المحكم، فالذين في قلوبهم مرضٌ و زيغٌ و انحراف، لسوء قصدهم، يتبعون المتشابه منه، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة، وآرائهم الزائفة طلباً للفتنة، و تحريفاً لكتابه، و تأويلاً له على مشاربهم ومذاهبهم، ليضلوا و يضلوا.
و أما أهل العلم الراسخون فيه الذين وصل العلم و اليقين إلى أفئدتهم فأثمر لهم العمل و المعارف فيعلمون أنَّ القرآن كله من عند الله، و أنه كله حق، محكمه و متشابهه، و أن الحقَّ لا يتناقض و لا يختلف، فلعلمهم أن المحكمات معناها في غاية الصراحة و البيان يردون إليها المشتبه الذي تحصل فيه الحيرة لناقص العلم و ناقص المعرفة، فيردون المتشابه إلى المحكم فيعود كله محكماً، و يقولون] آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ[ للأمور النافعة و العلوم الصائبة] إِلاَّ أُولُوا الأَلْبَابِ[ أي: أهل العقول الرزينة، ففي هذا دليل على أنَّ هذا من علامة أولى الألباب، و أن اتباع المتشابه من أوصاف أهل الآراء السقيمة، و العقول الواهية، و القُصُود السيئة.
قال: و لما كان المقام مقام انقسام إلى منحرفين و مستقيمين، دعوا الله تعالى أن يثبتهم على الإيمان، فقالوا: ]رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا[ أي: لا تُملها عن الحق إلى الباطل ]بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَّدُنْكَ رَحْمَةً[ تُصلح بها أحوالنا ]إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب [أي: كثير الفضل والهبات(3).
من السنة:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ] هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلْبَابِ [ (آل عمران:7). قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيتَ الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم» (4) .
قوله صلى الله عليه وسلم : «فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم» المراد: التحذير من الإصغاء إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن (5).
من الآثار:
1- عن سليمان بن يسار: أن رجلاً يقال له صُبيْغ قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر و قد أعدَّ له عراجين النخل، فقال: من أنتَ؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه، و قال: أنا عبد الله عمر. فجعل له ضرباً حتى دميَ رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي(6).
2- عن ابن عباس و ذكر عنده الخوارج و ما يلقون عند الفرار، فقال: يؤمنون بمحكمه و يهلكون عند متشابهه، و قرأ ابن عباس ]وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ الآية[ (7).
3- و عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ]فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ[. قال: الخوارج و أهل البدع (8).
4- و قال أيوب: لا أعلم أحداً من أهل الأهواء يجادل إلا بالمتشابه (9).
5- و عن قتادة قال: ]فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [ قال: إن لم تكن الحرورية و السبائية فلا أدري من هم؟ و لعمري لو كان أمر الخوارج هُدَى لاجتمع، و لكنه كان ضلالة فتَفَرَّق، و كذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافاً كثيراً، فوالله إن الحرورية لبدعة، و إن السبائية لبدعة، ما أنزلت في كتاب، و لا سنّهنّ نبي (10).
6- و قال الشاطبي في بيان مآخذ أهل البدع بالاستدلال:
و منها: انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف، و طلب الأخذ بها تأويلاً، كما أخبر الله تعالى في كتابه، إشارة إلى النصارى في قولهم بالثالوث بقوله: ] فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ[ .
و قد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه و إشكال ليس بدليل في الحقيقة، حتى يتبين معناه و يظهر المراد منه، و يشترط في ذلك أن لا يعارضه أصل قطعي، فإن لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك، أو عارضه قطعي، كظهور تشبيه، فليس بدليل، لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهراً في نفسه، و دالاًّ على غيره، و إلا احتيج إلى دليل عليه، فإن دلَّ الدليل على عدم صحته، فأحرى أن لا يكون دليلاً.
ثم قال:
و عند ذلك نقول: من اتباع المتشابهات: الأخذُ بالمطلقات قبل النَّظر في مقيداتها، أو في العمو مات من غير تأمُّل، هل لها مخصصات أم لا؟ و كذلك العكس بأن يكون النص مقيداً فيطلق، أو خاصّاً فيعمّ بالرأي من غير دليل سواه، فإنَّ هذا المسلك: رميٌ في عماية، و اتباع للهوى في الدليل، و ذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد، فإذا قيّد صار واضحاً، كما أن إطلاق المقيّد رأيٌ في ذلك المقيّد معارضٌ للنص من غير دليل (11).
_________________
الهوامش
1-جامع البيان (3/113)
2-تفسير ابن كثير (1/243) بتحقيقنا.
3-تيسير الكريم الرحمن (1/172).
4-أخرجه البخاري في التفسير (8/209) ومسلم في العلم (4/2053). وبوب عليه النووي : باب النهي عن اتباع متشابه القرآن ، والتحذير من متبعيه ، والنهي عن الاختلاف في القرآن.
5-الفتح(8/211) وقال : وأول ما ظهر ذلك من اليهود كما ذكره ابن إسحاق في تأويلهم الحروف المقطعة، وأن عددها بالجمل مقدار مدة هذه الأمة ، ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج ، حتى جاء عن ابن عباس أنه فسر بهم الآية، وقصة عمر في إنكاره على صبيغ لما بلغه أنه يتبع المتشابه ، فضربه على رأسه حتى أدماه ، أخرجها الدارمي وغيره .
6-أثر صحيح ، أخرجه الدارمي في سننه في المقدمة ( باب من هاب الفتايا )(1/54) وابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص56) . وانظر تعليقا على الحسبة لشيخ الإسلام (ص117).
7-جامع البيان (3/121) وإسناده صحيح .
8-الإبانة لابن بطة (783) وسنده صحيح وعزاه السيوطي في الدر (2/148) لعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي .
9-الإبانة لابن بطة (780) .
10-رواه ابن جرير (3/119) وابن بطة في الإبانة (785) وإسناده صحيح .
11-الاعتصام (1/304،305،312).