فضل التعاون على البر والتقوى-2
(( أقوال العلمـاء المعاصـرين في الفرق بين التعاون على البر والتقوى والتحزب ))
يخلط كثير من الشباب – هداهم الله تعالى – في بحثهم و سؤالهم لأهل العلم ، بين التحزب المذموم والتعصب الأعمى الذي يحاربه الإسلام ورسول الله عليه الصلاة والسلام وعلماء السلف قديماً وحديثاً ، وبين التعاون والتجمع على الخير ، والتنظيم الإداري لهذا التجمع ، الذي يوزع الواجبات وينسق الجهود ، ويعزز التعاون بين المسلمين في مجال الدعوة إلى الله تعالى بأحسن الطرائق وأجملها(1).
ولشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كلام نفيس يبين حدود التحزب المذموم ، إذ يقول :
وعلى المعلمين أن يكونوا متعاونين على البر والتقوى كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه )) . وقوله : (( مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )) . وقوله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه )) . وقوله : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه )) وقال صلى الله عليه وسلم : (( لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا )) .وهذا كله في الصحيح .
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : صلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين )) .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( تفتح أبواب الجنة كل يوم اثنين وخميس ، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا ، إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء ، فيقال : انظروا هذين حتى يصطلحا )) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )) .
وليس لأحد من المعلمين أن يعتدي على الآخر ، ولا يؤذيه بقول ولا فعل بغير حق ، فإن الله تعالى يقول : ]وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَ إِثْمًا مُّبِينًا [. وليس لأحد أن يعاقب أحدا على غير ظلم ولا تعدي حد ولا تضيع حق ، بل لأجل هواه ، فإن هذا من الظلم الذي حرم الله ورسوله ، فقد قال تعالى : فيما روي عنه نبيه صلى الله عليه وسلم : (( يا عبادي ! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا )) .
وإذا جنى شخص فلا يجوز أن يعاقب بغير العقوبة الشرعية ، وليس لأحد من المتعلمين والأستاذين أن يعاقبه بما شاء ، وليس لأحد أن يعاونه ولا يوافقه على ذلك ، مثل أن يأمر بهجر شخص فيهجره بغير ذنب شرعي ، أو بقول : أقعدته أو أهدرته أو نحو ذلك ، فإن هذا من جنس ما يفعله القساقسة والرهبان مع النصارى والحزابون مع اليهود ، ومن جنس ما يفعله أئمة الضلالة والغواية مع أتباعهم . وقد قال الصديق الذي هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته : أطيعوني ما أطعت الله ! فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )) . وقال : من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه )) .
فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص ، أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك : نظر فيه ، فإن كان قد فعل ذنبا شرعيا عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة ، وإن لم يكن أذنب ذنبا شرعيا لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره .
وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقى بينهم العداوة والبغضاء ، بل يكونون مثل الأخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى : ] وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [ .
وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهدا بموافقته على كل ما يريده ، وموالاة من يواليه ، ومعاداة من يعاديه ، بل من فعل هذا كان من جنس جنكز خان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا والي ، ومن خالفهم عدوا باغي ، بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله ، ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله ، ويحرموا ما حرم الله ورسوله ، ويرعوا حقوق المسلمين كما أمر الله ورسوله . فإن كان أستاذ أحد مظلوما نصره ، وإن كان ظالما لم يعاونه على الظلم بل يمنعه منه ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( أنصر أخاك ظالما أو مظلوما )) قيل : يا رسول الله ! أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما! قال : (( تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه )) .
وإذا وقع بين معلم ومعلم أو تلميذ وتلميذ أو معلم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق ، فلا يعاونه بجهل ولا بهوى ، بل ينظر في الأمر فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل ، سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره ، وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره ، فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله ، واتباع الحق والقيام بالقسط ، قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَولَى بِهِمَا ، فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ، وَإِنْ تَلْووا أو تُعْرِضوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [ ، يقال : لوى يلوي لسانه : فيخبر بالكذب . والإعراض : أن يكتم الحق ، فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس .
ومن مال مع صاحبه – سواء كان الحق له أو عليه – فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله ، والواجب على جميعهم أن يكونوا يدا واحدة مع الحقي على المبطل ، فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله ، والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله ، والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله ، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء ، فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه .
فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده . وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم ، فإن الله تعالى يقول : ]إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [. وقال تعالى : ]وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات[ ، وإذا كان الرجل قد علمه أستاذ عرف قدر إحسانه إليه وشكره (2).
——————————————————————————–
(1) ـ سيأتي الرد على ذلك في فصل الشبهات والرد عليها .
(2) مجموع الفتاوى (28/ 13-17) .