فوائد من قصة الخضر مع موسى عليه الصلاة والسلام
في هذه القصة العجيبة الجليلة ، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير ننبه على بعضه بعون الله :
• ومنها : أن العلم الذي يعلمه الله لعباده نوعان : علم مكتسب يدركه العبد بجهده واجتهاده . ونوع علم لدني ، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله : ( وعلمناه من لدنا علمًا ) . • ومنها : التأدب مع المعلم ، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ، لقول موسى – عليه السلام – : ( هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا ) ، فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا ، وإقراره بأنه يتعلم منه . بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذين لا يظهرون للمعلم افتقارهم إلى علمه ، بل يدعون أنه يتعاونون عم وإياه ، بل ربما ظن أحدهم أن يعلم معلمه ، وهو جاهل جدًا ، فالذل للمعلم ، وإظهار الحاجة إلى تعليمه ، من أنفع شيء للمتعلم .
• ومنها : تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه ، فإن موسى – بلا شك – أفضل من الخضر .
• ومنها : تعلم العالم الفاضل ، للعلم الذي لم يتمهر فيه ممن مهر فيه ، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة . فإن موسى – عليه السلام – من أولي العزم من المرسلين ، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم ، ولكن في هذا في العلم الخاص ، كان عند الخضر ما ليس عنده ، فلهذا حرص على التعلم منه . فعلى هذا ، لا ينبغي للفقيه المحدث إذا كان قاصرًا في علم النحو ، أو الصرف ، أو نحوهما من العلوم أن لا يتعلمه ممن مهر فيه ، وإن لم يكن محدثًا ولا فقيهًا . •
ومنها : إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى والإقرار بذلك ، وشكر الله عليها لقوله : ( تعلمن مما علمت ) أي : مما علمك الله تعالى . •
ومنها : أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير ، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطريق الخير ، وتحذير عن طريق الشر أو وسيلة لذلك ، فإنه من العلم النافع . وما سوى ذلك فإما أن يكون ضارًا أو ليس فيه فائدة لقوله 🙁 أن تعلمن مما علمت رشدًا ). •
ومنها : أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم ، وحسن الثبات على ذلك ، أنه ليس بأهل لتلقي العلم . فمن لا صبر له لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه ، أدرك به كل أمر سعى فيه ، لقول الخضر يعتذر عن موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه : إنه لا يصبر معه . •
ومنها : أن السبب الكبير لحصول الصبر ، إحاطة الإنسان علمًا وخبرة بذلك الأمر الذي أمر بالصبر عليه . وإلا فالذي لا يدريه أو لا يدري غايته ولا نتيجته ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا ) . فجعل الموجب لعدم صبره ، عدم إحاطته خبرًا بالأمر . ومنها : الأمر بالتأني والتثبت ، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود .
• ومنها : تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة ، وأن لا يقول الإنسان للشيء : إني فاعل ذلك في المستقبل ، إلا أن يقول : ( إن شاء الله ) .
• ومنها : أن العزم على فعل الشيء ، ليس بمنزلة فعله ، فإن موسى قال : ( ستجدني إن شاء الله صابرًا ) فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل . • ومنها : أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء ، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها فإن المصلحة تتبع . كما إذا كان فهمه قاصرًا أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها أو لا يدركها ذهنه أو يسأل سؤالاً لا يتعلق بموضع البحث . ومنها : جواز ركوب البحر في غير الحالة التي يخاف منها .
• ومنها : أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه ، لا في حق الله ، ولا في حقوق العباد لقوله : ( لا تؤاخذني بما نسيت ) .
ومنها : أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها ، وما سمحت به أنفسهم ولا ينبغي به أن يكلفهم ما لا يطيقون أو يشق عليهم ويرهقهم ، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة ، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر .
• ومنها : أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية في الأموال والدماء وغيرها . فإن موسى – عليه السلام – أنكر على الخضر خرقه السفينة وقتل الغلام وأن هذه الأمور ظاهرها أنها من المنكر . وموسى – عليه السلام – لا يسعه السكوت عنها في غير هذه الحال التي صحب عليها الخضر . فاستعجل – عليه السلام – وبادر إلى الحكم في حالتها العامة ، ولم يلتفت إلى هذا العارض الذي يوجب عليه الصبر وعدم المبادرة إلى الإنكار .
ومنها : القاعدة الكبير الجليلة وهو أنه ( يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير ) ويراعي أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما . فإن قتل الغلام شر ، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شرًا منه وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته وإن كان يظن أنه خير ، فالخير ببقاء دين أبويه وإيمانهما خير من ذلك ، فلذلك قتله الخضر . وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ما لا يدخل تحت الحصر . فتزاحم المصالح والمفاسد كلها داخل في هذا .
ومنها القاعدة الكبيرة أيضًا وهي أن ( عمل الإنسان في مال غيره إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة أنه يجوز ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير ) ، كما خرق الخضر السفينة لتعيب فتسلم مت غصب الملك الظالم . فعلى هذا لو وقع حرق أو غرق أو نحوهما في دار إنسان أو ماله ، وكان إتلاف بعض المال أو هدم بعض الدار فيه سلامة للباقي جاز للإنسان بل شرع له ذلك ، حفظًا لمال الغير . وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز ، ولو من غير إذن .
• ومنها : أن العمل يجوز في البحر ، كما يجوز في البر لقوله : ( يعملون في البحر ) ولم ينكر عليهم عملهم .
• ومنها : أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة ؛ لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين لهم سفينة . • ومنها : أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام : ( لقد جئت شيئًا نكرًا ) .
• ومنها : أن القتل قصاصًا غير منكر لقوله : ( بغير نفس ) .
• ومنها : أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه وفي ذريته .
• ومنها : أن خدمة الصالحين أو من يتعلق بهم أفضل من غيرها ، لأنه علل استخراج كنزهما وإقامة جدارهما بأن أباهما صالح .
• ومنها : استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ . فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله : ( فأردت أن أعيبها ) . وأما الخير فأضافه إلى الله تعالى لقوله : ( فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ) . كما قال إبراهيم – عليه السلام – : ( وإذا مرضت فهو يشفين ) . وقال الجن : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا ) مع أن الكل بقضاء الله وقدره .
• ومنها : أن ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال ويترك صحبته حتى يتبعه ويعذر منه ، كما فعل الخضر مع موسى .
• ومنها : أن موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة ، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ،،
( سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين )
من تفسير العلامة السعدي رحمه الله تعالى