مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشده أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد..
فعنوان هذه المحاضرة “إنهم فتية آمنوا بربهم” وهي بعض آية من سورة الكهف.
هذه السورة العظيمة يرددها المسلم ويقرأها كل أسبوع، وهذا يعني أن فيها من المعاني التي يحتاج الناس إلى تكرارها وإلى إعادتها. إننا دون أن نخوض في جدل وتساءل عن الحكمة وراء تكرار هذه السورة وقراءتها كل جمعة، فإننا نؤمن أنه لم يؤمر بتكرار هذه الآيات وقراءتها إلا أن فيها معان يحتاج الناس إلى أن يتذكروها، وأن لا تغيب عنهم.
هذه السورة العظيمة سميت بهذا الاسم “سورة الكهف” لأن فيها قصة هؤلاء الفتية الذين شهد الله لهم بالإيمان وأثنى عليهم وعدّلهم تبارك وتعالى. وهذه الكلمات ليست تفسيراً لهذه الآيات؛ فلست مختصاً بهذا العلم الذي له رجاله وفرسانه.
إنما هي وقفات وإشارات وعبر لبعض الدروس التي ينبغي أن نستفيدها من هذه القصة وبين يدي الحديث عن هذا الموضوع أرى أننا بحاجة إلى أن نؤكد أن هذا المعنى التربوي الذي يرد كثيراً في كتاب الله عز وجلّ – ونرى أن اهتمامنا به وعنايتنا به لا يتناسب مع المكانة التي أولاها القرآن الكريم إياه، إنها القصة؛ فالقرآن الكريم مليء بالقصص والله تبارك وتعالى أخبر أنه يقص علينا أحسن القصص في هذا الكتاب وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فقال :(فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) ، وأخبر تبارك وتعالى أن في قصص الأنبياء عبرة لأولي الألباب وأنه حديث صدق وحق (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى).
نعم لأن القصص تدخل فيها الأساطير والخرافات والأقاويل أما كلام الله عز وجل فيتنزه عن ذلك، إن هذا القرآن الذي هو كلام الله تبارك وتعالى وأنزله الله عز وجل على عباده من فوق سبع سماوات حين يكون مليئاً بالقصص والإشارة إليها والتعقيب فهذا يعطي المربين درساً مهماً في شأن القصة وأهميتها في التربية، وحين ندرك هذا المعنى نرى أننا نهمل شأن القصة أو لا نعتني بها كما ينبغي.
وأولى القصص التي ينبغي أن نعتني بها ما جاء في كتاب الله عز وجل وما قصه الله عز وجل في كتابه فهو دليل على أهمية هذا الموضوع وعلو شأنه .
إن كل واحد منكم يستطيع أن يطرح تساؤلاً حول موضوع يُختار للحديث عنه، وقد يرى أن هذا الموضوع ليس ذا بال وأهمية ومن حقه أن يرى هذا الرأي، لكن أن يقول امرؤ إن قصة جاءت في كتاب الله أو قصها النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليست ذا بال فهذا لا يمكن أن يجرؤ عليه مسلم ولا يقوله، وهي قضية لا مجال فيها للنقاش والجدل، قصة جاءت في كتاب الله فهذا يعني أننا في حاجة إلى أن نتدبرها وأن نقف عند معانيها وأن نقيس حالنا بحال الذين قص الله علينا شأنهم، وقصة قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن لها شأناً ولها قيمة، إنها قضايا تتجاوز مجرد الحديث التاريخي البحت الذي يعني بتسطير الأخبار والروايات والأحداث.
وحين نقرأ في كتاب الله ونحلل أساليب عرض القصة نرى أن القصة لا تأتي قصة مجردة تحكي أحداثاً مترابطة، إنما تأتي القصة وفي ثناياها الإشارة إلى العبر والعظات والدروس المهمة التي ينبغي على الناس أن يعوها.
ولهذا فحديثي سيكون عبارة عن جملة من الوقفات لا يجمعها جامع إلا أنها وقفات حول هذه القصة العظيمة التي جاءت في كتاب الله عز وجل.
الوقفة الأولى: عظم شأن الشباب:
أهل الكهف كما أخبر الله عز وجل فتية (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) وقال في الآية الأخرى (إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً) ،ولا شك أن هذا الوصف وهذه الكلمات لم تأت اعتباطاً، لم تأت لقضية تاريخية بحتة، والقصة أجملت أولاً في ثلاث آيات ثم فصلت، ووصفهم بالفتوة جاء في الموضعين كليهما: موضع الإجمال، وموضع التفصيل .
فماذا يعني وصف هؤلاء بأنهم فتية؟
يعني دلالات ، أولها سنة الله عز وجل في هذه الدعوة –وهي دعوة واحدة وأمة واحدة – (إن هذه أمتكم أمة واحدة) فالمؤمنون بالله أمة واحدة بدءاً بنوح عليه السلام، وإلى أن تختم بالطائفة المنصورة إذ ينزل عيسى مجدداً وحاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. أن يكون أتباع هذه الدعوات هم من الشباب، وهذا النموذج أمامنا: مجتمع يعج بالكفر والشرك بالله عز وجل يستفيق فيه هؤلاء الفتية وهؤلاء الشباب، وقبل ذلك قال قوم نوح :(ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) هم سذج الناس البسطاء الرأي الذين يتبعون كل ناعق.
وقال الله عز وجل عن أتباع موسى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملأهم أن يفتنهم) فأقران موسى عليه السلام ليسوا هم الذين آمنوا به واتبعوه، بل الذين آمنوا به هم الذرية قال ابن كثير رحمه الله حول هذه الآية:”يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السلام مع ما جاء به من الآيات البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات إلا قليل من قوم فرعون من الذرية وهم الشباب على وجل وخوف منه ومن ملئه أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر، لأن فرعون لعنه الله كان جباراً عنيداً مسرفاً في التمرد والعتو، وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفاً شديداً”.
وفي قصة أصحاب الأخدود أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الحدث وتلك القضية كانت على يد هذا الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره.
وحين جاء النبي صل الله عليه وسلم أصبحت سيرته خير شاهد على ذلك؛ فالعشرة المبشرون بالجنة – وهم من أوائل الذين دخلوا في الإسلام ولهم قدم صادقة في دين الله عز وجل – كان خمسة منهم دون العشرين من أعمارهم، ويعجب القارىء لهذه السيرة كيف يصل هؤلاء إلى هذه المنزلة وكانوا لا يزالون في ريعان شبابهم ربما كان بعضهم ليس في وجهه شعرة واحدة.
وكثير من أوائل السابقين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وثبتوا على الإسلام في مكة كانوا من الشباب، ومن هؤلاء: سعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وسعيد بن زيد وخباب والأرقم ابن الارقم وعبدالله بن مسعود –رضي الله عنهم- وغيرهم كثير كانوا من هؤلاء.
وكذلك كان الأمر في المدينة فأول من أسلم منهم كان غلاماً صغيراً اسمه إياس بن معاذ، كما روى ذلك محمود بن لبيد – رضي الله عنه – قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله r فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: “هل لكم إلى خير مما جئتم له؟” قالوا: وما ذاك؟ قال: “أنا رسول الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً” ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال: إياس بن معاذ: يا قوم، هذا والله خير مما جئتم له. فأخذ أبو الحيسر حفنة من البطحاء، فضرب وجهه بها، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فسكت وقام وانصرفوا، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك.
قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه، فكانوا لا يشكون أنه مات مسلماً.
وحين جاء أولئك الذين اتبعوا مصعب رضي الله عنه إلى بيعة العقبة وهم صفوة الأنصار اجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء العباس وهو على دين قومه ليطمئن على صدق هؤلاء الذين سينتقل إليهم ابن أخيه صلى الله عليه وسلم تفرس العباس في وجوه القوم فقال :”هؤلاء لا نعرفهم، هؤلاء أحداث”.
إذا فأهل الكهف الذين ذكر الله خبرهم وأعلى شأنهم كانوا شباباً وفتية، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية :”فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب, وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل, ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله r شباباً, وأما المشايخ من قريش, فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً”.
إن هذا يعني أن الصحوة التي تعم أرجاء العالم الإسلامي في عرضه وطوله حين قامت على الشباب ليست ظاهرة شاذة كما يحلو للبعض أن يصوروا ذلك، ويروا أنها إنما قامت على هؤلاء السذج بادي الرأي، فأصحاب هذه المقالة التي يرددونها اليوم متفقون مع قوم نوح الذين قالوا (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي).
ثانياً: إن كون أهل الكهف شباباً وفتية يعطي درساً مهماً وتساؤلا نطرحه ونحن نعيش أزمة في عالم الشباب الذين يتعلقون بالأمجاد والبطولات، فلماذا يتعلق أبناء المسلمين اليوم بالأمجاد الزائفة والبطولات الزائفة التي يصنعها الأعداء؟ أو تكون نتائج إغراق الأمة في لهو وعبث فارغ لا يعدو أن يفرغ قضية الأمة الكبرى والأساس من مضمونها ليخرج جيلا تتعلق البطولة والأمجاد لديه بتوافه الأمور، أليس اليوم الشباب في العالم الإسلامي وهم يعيشون هذه الأزمة بحاجة إلى أن يبرز أمامهم هذا النموذج وهذا البديل؟
ويتساءل المعلم اليوم بمرارة وأسى: أيعرف شباب المسلمين عن شأن أهل الكهف وعن شأن أصحاب الأخدود وعن شأن الشباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون عن أهل الفن واللهو والعبث الباطل الزائل؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل إجابة مرة، وهي تطرح مطلباً وتساءلاً ملحاً لكل من ولاه الله مسؤولية في تربيةٍ وتوجيه، إن الأمة أجمع..إن الأمة اليوم والشباب بوجه أخص يعانون من أزمة القدوة وهاهو البديل إن كنا جادين وصادقين، فلماذا لا تبرز هذه النماذج للشباب على أنهم المثل الأعلى ؟ إذا كان الشباب يبحثون عن البطولات والإنجاز والأمجاد فها هو إنجاز وها هو مجد أولئك الشباب الذين يستعلون على شهواتهم وعلى رغبات الدنيا ويستعلون على الفتن التي تأتيهم من هنا ومن هناك؛ فيعلنون إيمانهم بالله عز وجل، أيقارن هذا المجد بأمجاد هذه الدنيا الزائفة التي يتطلع إليها الشباب اليوم؟
إنك حين تسأل شباب الأمة اليوم عن قدوتهم وعن مثلهم الأعلى وعن الشخصية التي يتمنون أن يصلوا إليها وعن أمنيتهم في الحياة تدرك المرارة والأسى والحاجة الملحة إلى مثل هذا النموذج الذي لا يتطرق إليه الشك ولا الكذب إنه نموذج يعرضه أمامنا كتاب الله عز وجل.
ثالثاً: إن ارتباط هذه القضية بالشباب تعطي الشاب المسلم المعاصر ثقة بنفسه وثقة بطريقه ويشعر -وهو يسير على طريق يخالفه الناس من هنا وهناك- أن له امتدادا بعيداً يتجاوز هذه الحقبة الزمنية التي يعيشها، ليدخل ضمن هذه الدائرة الشباب الصادقون من سلف الأمة، والشباب الصادقون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم بل يتجاوز تاريخ الأمة المحمدية ليشمل تاريخ تلك الأمم ، أمة التوحيد منذ أن أهبط الله عز وجل آدم إلى أن تقوم الساعة فيشعر الشاب حين إذن بالاعتزاز وهو ينتمي إلى هذا المنهج، يشعر بالاعتزاز وهو يرى أنه لا يعيش غربة وأنه لا يعيش حالة شاذة وإن بدا من خلال النظرة القريبة التي يعيشها وينظر إليها.
إنه حين يقرأ كتاب الله عز وجل ويرى هذا النموذج البعيد على تلك القرون المتطاولة على مدى التاريخ يدرك أن له إخوة ساروا على الطريق نفسه، وهذا يدعوه إلى الثبات والثقة بالطريق الذي هو عليه ولسان حال تفكيره وهو يقرأ هذه النماذج “لست وحدك في الميدان ولست وحدك على الطريق وإن أصابك ما أصابك وإن رأيت ما رأيت”.
إنه طريق طويل يتجاوز مدى الزمان،. ويتساءل أين الشباب العابثون اللاهون الساهون الذين متعوا أنفسهم بالشهوات؟ وأين أولئك الشباب الذين لم يستطيعوا أن يتجاوزوا أسر عصرهم وزمانهم أين هم على مدى التاريخ؟ ماذا حفظ التاريخ عنهم؟ وماذا سطر من أخبارهم وأحوالهم؟ أما هؤلاء –أهل الكهف- فهاهم على مدى التاريخ، يتحدث الناس ويتساءلون عنهم، عن أسمائهم، عن اسم ذلك الكلب الذي صحبهم، أين الكهف الذي عاشوا فيه؟ إلى آخر تلك التساؤلات -وإن كانت طائفة من هذه التساؤلات مما لاينبغي الاشتغال به- إلا أن هذا يعني أن أولئك حفظ شأنهم وبقي وبقيت قيمتهم وما عند الله عز وجل لهؤلاء وغيرهم من المؤمنين الصادقين أعلى وأتم من هذا الذكر الذي بقي في الدنيا .
الوقفة الثانية: الإيمان يعلي شأن صاحبه:
إن الإيمان والدين يرفع المرء مراتب ويتجاوز الاعتبارات التي يضعها الناس لدنياهم، ماذا يعني فتية من الشباب، فتية خالفوا قومهم – وشذوا بمنطق قومهم – عما هم عليه فذهبوا إلى غار فاختبؤوا فيه مدة طويلة ثم بعد ذلك ماتوا؟ لقد أعلى الله شأنهم، وأثنى عليهم، وشهد لهم بالإيمان وزيادة الهدى فهكذا الإيمان والصلة بالله عز وجل، إنها تتجاوز كل الاعتبارات التي يُعليها الناس اليوم من الجاه والنسب والمال وسائر المطامع،يتجاوز هذا كله لتبقى هي الرصيد الذي لا يزول ولا يفنى.
الوقفة الثالثة: النعي على مشركي قريش:
لقد بدأ الله تبارك تعالى الحديث عنهم بوصفهم بالإيمان (آمنوا بربهم وزدناهم هدى)، وهذا فيه إشارة وإيماء للمشركين الذين لم يؤمنوا وجاءوا يتساءلون عن أهل الكهف ما شأنهم؟ حدثنا عن فتية كانوا في غابر الزمان ؟ إنهم مؤمنون ومهتدون وأنتم ما شأنكم ؟ أنتم كفرتم بربكم وأعرضتم واستكبرتم عن اتباع أمره.
الوقفة الرابعة: للهداية أسباب:
قال عز وجل :(إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) إنها قضية مهمة كثيرا ما يشير إليها القرآن وقد نغفل عنها ألا وهي: أن الإيمان والعمل الصالح سبب للهداية والتوفيق، كما قال تبارك وتعالى في آية أخرى (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خير لهم وأشد تثبيتاً وإذا لآتينهم من لدنا أجر عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما) ، وقال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ،وقال (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم)، وقال: (والذين قتلوا في سبيل الله -وفي قراءة أخرى قاتلوا في سبيل الله- فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم)، فالهداية والتوفيق من الله عز وجل لها أسباب، ومن أعظم أسباب الهداية والتوفيق اجتهاد المرء في العمل الصالح والإيمان وتقوى الله عز وجل.
وكما أن للهداية أسباباً، فللثبات عليه –وذلك من تمام الاهتداء أسباب- وهو معنى نحن أحوج ما نكون إليه في هذا العصر الذي أصبحنا نرى الناس يتهاوون صرعاً على جنبات الطريق ذات اليمين وذات الشمال ويتيهون ويضلون، والحديث اليوم الذي يسيطر على كثير من الشباب الصالحين الأخيار هو السؤال عن الثبات والهداية، وتأتي الإجابة هاهنا (إنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى. وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض. لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططاً) فقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والأمر أولا وآخراً بيد الله تبارك وتعالى مقلب القلوب، فالثبات بإذن الله، والتوفيق والربط على القلوب إنما هو بيده عز وجل، وقد جعل الله لذلك أسباباً، فحين يشعر الشاب اليوم أن الفتن بدأت تتناوشه ذات اليمين وذات الشمال، ويشعر بالخوف والخطر على إيمانه – وينبغي أن يشعر بهذا الشعور- فعليه أن يدرك أن الله عز وجل هو الذي يربط على قلوب المؤمنين الصادقين، ومتى؟ حين يفعلون السبب.
الوقفة الخامسة: عظم شأن التوحيد:
لقد قال أهل الكهف(ربنا رب السموات والأرض) فهذا توحيد الربوبية، وذكروا توحيد الألوهية بقولهم (لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا) إنها دعوة واحدة: دعوة التوحيد، وهي دعوة الأنبياء (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)، وما أرسل الله عز وجل من رسول إلا أوحى إليه تبارك وتعالى هذه الكلمة، أوحى إليه: (لا إله إلا أنا فاعبدون)، وكما قال صلى الله عليه وسلم:” نحن معاشر الأنبياء وأولاد علات أو إخوة لعلات”، فقضية التوحيد هي قضية الأنبياء منذ آدم ونوح وهود وصالح كل هؤلاء ومن تلاهم ومن لم يقص الله علينا شأنهم كانت مقولتهم لقومهم (اعبدوا لله مالكم من إله غيره) وهي أيضا مقولة أهل الكهف الفتية الذين آمنوا بالله وزدناهم هدى.
والتوحيد هاهنا الذي يأخذ هذا القدر والمنزلة بمفهومه الواسع، وليس بالمفهوم الضيق الذي يحصره طائفة من الناس في دائرة ضيقة في قضايا معرفية بحتة. إن كثيراً من المسلمين اليوم يشعرون أن من الخلل بالتوحيد أن يقول أحدهم ماشاء الله وشئت، أو يقول لولا الله وفلان وهذه أمور ينبغي أن يُحذَّر منها الناس، لكن بعض من يحذر من قول ما شاء الله وشئت قد يقول في الثناء على مخلوق – بلسان الحال لا بلسان المقال-: ماشئت ماشاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار، إن أهل التوحيد لا يليق أبداً أن يكون في قلوبهم تعظيم لغير الله عز وجل، ولا أن تمتليء قلوبهم إلا بالتوجه إلى الله تبارك وتعالى، وأولئك الذين تعلقوا بالدنيا وتعلقوا بالشهوات وصارت هي الحاكم لكل ما يريدون أولئك الذين تمثل قضية الدنيا كل شيء لديهم ينبغي أن يراجعوا توحيدهم.
إنهم لو عظموا الله ووحدوا الله عز وجل، ولو امتلأت قلوبهم بتوحيد الله تبارك وتعالى وتعظيمه لما تجرأوا على ذلك، وأولئك الذين يتجرأون على شرع الله عز وجل فيحرم الله أمراً تحريماً صريحاً واضحاً ثم يتجرؤون على إباحته على رؤوس الأشهاد، أولئك ما قدروا الله حق قدره، وما وحدوا الله عز وجل حق توحيده.
لقد جاء الأمر بالحكم بشرع الله قريناً للأمر بعبادته (إن الحكم إلا لله أمر ألا تبعدوا إلا إياه) فكما أن المسلم لا يصلي ولا يسجد إلا لله عز وجل، فهو كذلك لا يحكِّم إلا شرع الله تبارك وتعالى، والفصل بينهما خلل في التوحيد، إذا فقد كانت قضية التوحيد هي قضية أهل الكهف، كما كانت قضية الأنبياء من قبلهم.
الوقفة السادسة: عظم شأن الدعاء:
فقد سمى الله عز وجل الدعاء عبادة، كما قال إبراهيم عليه السلام (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وادعوا ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا. فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله) فسماه الله عز وجل عبادة، وفي آية أخرى (وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادته سيدخلون جهنم داخرين) وقال صلى الله عليه وسلم “الدعاء هو العبادة”.
لماذا كان الدعاء هو العبادة؟ ولماذا صار الدعاء قرين التوحيد؟
حين يدعو المرء غير الله فهذا يعني أنه يرجو غير الله، ويعني أنه يعظم غير الله عز وجل، ويعني أنه يشعر أن قضيته بيد فلان أو فلان، أما أولئك الذين دعاؤهم لله عز وجل خالصاً لوجهه فهم لا يرون لمخلوق عليهم فضلاً، ولا يرون لبشر عليهم منّة، ولا يرجون من مخلوق نوالاً، ولا يخافون من أحد غير الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم:”إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عيك”.
الوقفة السابعة: حول الدليل والبرهان:
لقد طالب أهل الكهف قومهم بسلطان وحجة (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان مبين) ذلك أن الدليل والحجة والبرهان منطق مهم ينبغي دائما أن يحكم ما نقول في كل قضية؛ فالحق أبلج والباطل لجلج، إن أولئك الذين يستخدمون أسلوب الإثارة والتهويل وإصدار الأحكام الجاهزة يفرون من منطق الحجة والبرهان ولا يخشى الدليل والبرهان والحجة ولا يفر من الحوار إلا أولئك الذين لا يملكون ما يقدمون ولا يستطيعون أن يقنعوا الناس بقضيتهم.
إن الله عز وجل دعا أولئك الذين تجرؤوا على الشرك فقال (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) ، ودعا أولئك الذين نسبوا الولد إلى الله عز وجل أن يأتوا ببرهان أو حجة، ونعى تبارك وتعالى على أولئك الذين يسيرون ويتبعون كل ناعق، وما جاء التقليد في موضع القرآن إلا موضع الذم والنعي، بل جاء التشبيه لأولئك الذين يسيرون خلف كل ناعق بالدواب (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي) إنهم الراعي حينما يسير بغنمه فهو ينعق بها ويصيح بها فالغنم تسمع صوت الراعي ولكن لا تفقه ما يقول، تسمعه يدعوها فتسير وراءه.
إن هذا المنهج ينبغي أن يسود في دعوتنا وأن تتربى عليه الأمة، وليس من مصلحة الأمة أن يغيب عنها الوعي أو أن تكون أمة مغفلة كالقطيع.
الوقفة الثامنة: الصلة بالله عز وجل:
لقد اعتزل أهل الكهف أقوامهم، ولجؤوا إلى الله وحده، وهم بذلك يرسمون لمن بعدهم منهجاً وطريقاً لاغنى لهم عنه، إنه الصلة بالله تبارك وتعالى.
وهاهو هذا الدرس نتلقاه من قصة موسى عليه السلام في سورة القصص (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين. ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهدني إلى سواء السبيل) ثم لما أوى إلى الظل قال (رب إن لما أنزلت إلى من خير فقير).
وحين ذكر الله تبارك وتعالى طائفة من أخبار الأنبياء في سورة الأنبياء قال عنهم: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) فحري بالدعاة أن لا تغيب عنهم هذه القضية في كل موقف وفي كل حين.
والمؤمن الموصول بالله يجد الطمأنينة والسكينة في كل ما يواجهه، فحينما أمر الله موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون قالا (ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغي. قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى)
الوقفة التاسعة: بذل الأسباب يعين على الثبات:
لقد أكرم الله تبارك وتعالى هؤلاء الفتية ووفقهم للثبات على دينه، بعد أن صدقوا مع الله وبذلوا الأسباب، ومنها:
1. أنهم آمنوا بالله عز وجل إيماناً صادقاً. 2. لما رأوا أن بقاءهم مع قومهم قد يكون سبباً لفتنتهم تركوا قومهم وأووا إلى الكهف فراراً بدينهم. 3. حين بعثوا أحدهم ليأتي بالطعام، أمروه بالحذر حتى لايشعر بهم قومهم فيردوهم (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً).
إذن فالمسلم حتى يثبته الله يحتاج أن يبذل الأسباب، وأن يجتهد فيبتعد عن مواقع الفتن ويحذر منها، ثم يكل أمره إلى الله، أما الذي يرمي نفسه في اليم ويسأل الله الثبات فهذا لم يعمل السبب الذي يستحق من أجله أن يوفَّق ويعان.
الوقفة العاشرة: حفظ الله لهم:
حين ذهب الفتية وغادروا قومهم رأوا كهفا فأووا إليه، ووصف الله حالهم فيه بقوله (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم وليا مرشداً. وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعباً) لقد حفظهم الله عز وجل وحماهم بأمور عدة:
ألاول: أن جاءوا إلى هذا الكهف فالشمس إذا طلعت تزاور عنهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال فاختير لهم هذا الموطن وهذا الكهف، وقد قال الحافظ ابن كثير عنه “فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال, لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه (ذات اليمين) أي يتقلص الفيء يمنة, كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة (تزاور) أي تميل, وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان, ولهذا قال: (وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال) أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه, وهو من ناحية المشرق, فدل على صحة ما قلناه, وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب, وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب, ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب, ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً, ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال, ولم تزل فيه إلى الغروب, فتعين ما ذكرناه, ولله الحمد”.
الثاني: أنهم أصبحوا يقلبون ذات اليمين وذات الشمال حتى لا تبلى أجسادهم.
الثالث: أنهم ألقي عليهم الرعب بحيث لو رآهم أحد لفر منهم ورعب.
إنه حفظ الله تبارك وتعالى لأوليائه، فقد حفظهم من حيث لا يحتسبون ومن حيث لا يشعرون، فأَمر الله فوق ما يفكر فيه البشر، لقد كان من المحتمل أن يناموا تحت شجرة، أو في كهف في جهة المشرق، أو في جهة المغرب، وما كان يدور في بال أحدهم أبداً أنهم سينامون هذه القرون والسنين الطويلة؛ فاختار الله لهم أمراً لم يدر في بالهم.
الوقفة الحادية عشرة: سنة الله في الأسباب والنتائج:
تتجلى في هذا الحدث عظمة قدرة الله تبارك وتعالى –ومع ذلك فهؤلاء ليسوا بأعجب آيات الله- فقد بقى هؤلاء نائمين ثلاثمائة سنة، واختار لهم تبارك وتعالى هذا الكهف الذي مضت صفته، إن الله تبارك وتعالى قادر على أن يحفظهم ولو ناموا في مكان غيره.
لكن سنته تبارك وتعالى أن قدره يسير وفق أسباب طبيعية، ثم قد تأتي الخوارق بعد ذلك، وهذا فيه تربية للأمة؛ ذلك أنه حين يتعلق الجيل بالخوارق يبقى جيلاً غير عامل، وجيلاً لا يحمل المسؤولية.
وحينما نقول للجيل: إن الله سينصر دينه وسيتم كلمته يجب أن نقول إن النصر والتمكين لا يكون إلا على أعتاب التضحيات والبذل والجهد، فها هي مريم حين جاءها المخاض إلى جذع النخلة أوحى الله إليها (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا)، هل يستطيع أحد أن يهز جذع النخلة فيسقط عليه الرطب فضلاً عن امرأة تعيش في حالة الوضع؟
وفي قصة أصحاب الأخدود حين جاء الغلام ورأى الناس قد وقفوا، والدابة قد سدت الطريق، فدعا الله عز وجل قائلاً “اللهم إن كان دين الراهب أحب إليك من دين الساحر فاقتل هذه الدابة على يدي” وأخذ حجراً فرماها به فقتلها الحجر، إن الناس ليسوا عاجزين عن رمي الدابة بالحجر حتى يأتي هذا الغلام ويرميها، وحين دعا ربه فعل السبب، والأمر بيد الله عز وجل أولاً وآخراً.
إذن فسنة الله عز وجل أن يحفظ أولياءه، وأن يحفظهم من حيث لا يحتسبون، وأن يجري ذلك وفق السنن الطبيعية، ثم قد تأتي الخوارق بعد ذلك.
الوقفة الثانية عشرة: مع اليائسين من النصر:
إن شأن أهل الكهف كما ذكر تبارك وتعالى ليس بأعجب آيات الله (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) ، أين الناس اليوم الذين سيطر عليهم اليأس وتخيلوا أن مستقبل الدعوة والصحوة بيد الأعداء يفعلون ما يشاءون ويريدون.
ثمة فئات من الخيرين والصالحين الغيورين يشعرون أن مستقبل الدعوة والصحوة بيد أعدائها، ويتمنون أن يتكرم هؤلاء الأعداء ويتلطفون بأن يفرِّجوا هذه الأزمة، وماذا ينتظر من أعداء الملّة غير هذا؟ولماذا نتصور أن قضية الصحوة بيد أعدائها؟.
الوقفة الثالثة عشرة: الصحبة الصالحة:
في هذه القصة درس مهم في أثر الصحبة الصالحة ودور ذلك في الإعانة على الثبات، وتزداد الحاجة إليها خاصة في أوقات الفتن والمحن، أو في الأوقات التي يزيد فيها الفساد، كما كان الشأن لدى أهل الكهف.
بل قد ذكر المفسرون أن هذا الكلب الذي صحبهم استفاد الذكر الحسن، فقد صار المفسرون يتحدثون عن شأنه واسمه ولونه –بغض النظر عن الحاجة للخوض في ذلك-.
وأقوى من شأن الكلب وخبره دلالة على أثر الصحبة الصالحة قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الملائكة الذين يتتبعون مجالس الذكر قال: فيصعدون إلى ربهم فيقول لهم كيف تركتم عبادي؟ فيقول: تركناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك، قال فماذا يسألونني ومم يستجيرون….إلى آخر الحديث ، وفيه فلما قال الله عز وجل : أبشركم أني قد غفرت لهم قالوا: فيه فلان بن فلان عبد خطاء، ليس منهم إنما جاء لحاجة فجلس.
إن لم يأت ليجالسهم ويصاحبهم، فقد جاء يريد حاجة، فما شأن من جاء رغبة منه وحباً للصالحين وإن كان خطاء مقصراً.
الوقفة الرابعة عشرة: الانشغال بما يفيد وما يعني:
حين استيقظ الفتية تساءلوا، (كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) إنه سؤال من الطبيعي أن يصدر منهم في هذا الوقت، فتساءلوا عنه، ثم أدركوا أن النقاش في هذا الأمر لا يفيد، فهم أمام قضية يجب أن ينشغلوا بها ويعتنوا بشأنها، فهم يحتاجون إلى الطعام فليذهب أحدهم إلى المدينة ويختار الطعام المناسب ويأتي به.
وفي التعقيب على هذه القصة يقول تعالى :(سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحداً).
ومع أن هذه الآيات –بل السورة – تؤكد على الانشغال بالقضايا الجادة، وترك الجدل فيما لا يفيد إلا أنك تجد من يستطرد في كلام أسمائهم ولون كلبهم، واسم غارهم، مما لم يتعبدنا الله عز وجل به، إنما علينا أن نعتبر ونتعظ، فالأمر سيان والعبرة واحدة، سواء أكان الكهف هنا أم هناك.
والانشغال بهذه الجوانب التي استأثر الله بعلمها يصرف المرء عن الجانب المهم ألا وهو الاقتداء والاتعاظ والاعتبار.
الوقفة الخامسة عشرة: لقد كانوا أثرياء:
حين استيقظ أهل الكهف أرسلوا أحدهم بالورق –وهو النقد من الفضة- وهذا استنبط منه بعض المفسرين أنهم أبناء طبقة ثرية، ويشهد لذلك أنهم اختاروا الطعام الطيب، وهو في الغالب لا يختاره إلا فئة اعتادت عليه وألفته، وليسوا من الطبقة الفقيرة أو المعدمة، وهذا لا يعني هؤلاء على أولئك.
لكن في القصة عجب، ألا وهو أن هؤلاء الذين يختارون الطعام الطيب الزكي، أين أووا؟ لقد شعروا أن الأرض ضاقت بهم فأووا إلى كهف خشن ضيق قائلين (ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً) كأن هذا الكهف أصبح واسعاً رحباً.
إنه دليل على عظم التضحية والبذل لدى هؤلاء الفتية، وانظر إلى نموذج آخر يتمثل في مصعب ابن عمير رضي الله عنه كان من أعطر فتيان مكة، وكان صاحب ثراء ونعمة، وحين مات لم يجدوا شيئاً يكفنونه به إلا بردة، هي كل ما يملك، ومع ذلك فهذه البردة لم تكن كافية لتغطي جسده كله، يصفها عبدالرحمن بن عوف – رضي الله عنه – بقوله: إن غطينا رأسه بدت قدماه، وإن غطينا قدميه بدا رأسه.
إن الدين والإيمان يدفع صاحبه للتضحية، والأمر لايعني بالضرورة أن يذهب الإنسان ليبحث عن حياة الشقاء والنكد، لكن حين يتطلب الأمر ذلك فليكن على استعداد لهه
الوقفة السادسة عشرة: الحذر فيما يستوجب ذلك:
حين أرسل الفتية صاحبهم إلى القرية أمروه بالحذر والتوقي قائلين له (وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً) معللين ذلك بقولهم (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً).
وأشار الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله إلى هذا المعنى فقال: “ومنها -فوائد القصة-الحث على التحرز والاستخفاء والبعد عن مواطن الفتن في الدين واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين”.
وفي ذلك دروس أولها: أن المسلم ينبغي له أن يفر من الفتن ويبتعد عنها،فإذا جاءت صبر وثبت، ولا يجوز له يبحث عن الفتنة ويسعى إليها؛ فذلك دليل على ثقة الإنسان بنفسه واتكاله عليها، وهذا قد يكون سببا لأن يوكل الإنسان إلى نفسه، وإذا وكل إلى نفسه ضاع.
وفي قصة أصحاب الأخدود قال الراهب للغلام: إنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي، لكن لما عذب الغلام لم يستطع الكتمان فدل على الراهب، حينها ثبت الراهب، والغلام حين عذب ولم يستطع دل على الراهب، لكنه عذب على دينه فما تركه وما تخلى عنه.
والفتنة قد لاتكون تعذيبا وإيذاء ، بل سائر فتن الشهوات والشبهات يشرع للمسلم أن يفر منها فحين تقع فليثبت وليصبر.
لكن الفرار من الفتن لا يجوز أن يدعو المرء إلى أن يرتكب ما حرم الله، أو يدع ما أوجبه والنظرة المتكاملة لهذه القضية تمنع الإنسان من الشطط هنا أو هناك، من الغلو في النظرة إلى الجانب الآخر وثقته وإفراطه بنفسه أو من الغلو من مسألة الفرار من الفتن فيرتكب من الحرام مالا يسوغ له بحجة الفرار من الفتن.
الوقفة السابعة عشرة: الشح بالدين والحرص عليه:
لقد كان الفتية حريصين على دينهم وشحيحين به، لذا فروا من قومهم واختفوا في هذا الكهف، وأرسلوا واحداً فقط من أصحابهم ليكون أبلغ في التخفي، وأوصوه بالتلطف والحذر. والحرص على الدين والشح به مما عده الحافظ البيهقي من شعب الإيمان.
فينبغي للمسلم أن يشح بدينه، وأن يكون حريصا عليه، والأمر لايقف عند هذه الصورة القريبة فقط، فالشاب الذي يشعر أن التطلع إلى صورة عارية، أو إلى مجال فيه سفور وتبرج، أوصحبة لفلان من الناس، الذي يشعر أن هذا قد يسبب له فتنة في دينه فشحه بدينه وحرصه عليه ينبغي أن يدفعه ترك هذه المؤثرات والبعد عنها
الوقفة الثامنة عشرة: العواقب لا يعلمها إلا الله:
لقد كان هؤلاء الفتية يحذرون من عثور قومهم عليهم، ويعتقدون أن هذا الأمر ليس خيراً لهم، لكن حين عثر عليهم قومهم صار الأمر غير ذلك؛ فالعواقب لا يعلمها إلا الله.
إن الواجب على المسلم أن يأخذ الأسباب ويتعامل مع الأمور الظاهرة الواضحة، ثم يكل الأمر إلى الله ويسلمه إليه، فكثيراً ما يحرص المرء على أمر عاقبته ليست خيراً له، أو يقلق على ما تكون عاقبته حميدة من حيث لا يشعر، كما قال عز وجل :(وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم) وقال: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً).
وهاهو سراقة بن مالك لما لحق النبي r وصاحبه وهما مهاجرين، خشي أبو بكر – رضي الله عنه – من لحوقه بهم، وكان يتمنى ألا يدركهم، لكن حين أدركهم أصبح يصد الناس عنهم؛ فمن لقيه في طريقه قال له: لقد كفيتم ما هاهنا، فكان أول النهار طالبا لهم عين لهم وآخر النهار صاداً؛ فصار لحوقه بهم خيراً لهم في حين كانوا يظنون خلافه.
والنموذج الآخر في صلح الحديبية، فقد اعترض المسلمون على شروط الصلح، وأشد ما اعترضوا عليه منه: اشتراط إعادة من فر من المسلمين إلى المشركين، وثبت فيما بعد أن هذا الصلح كان خيراً للمسلمين، وكان هذا الشرط بالأخص خيراً للمستضعفين من المسلمين وسبباً في نجاتهم، وجاء المشركون يطلبون من النبي rملحين عليه أن يتنازل عن هذا الشرط.
والنموذج الثالث في قصة عائشة رضي الله عنها حينما قذفت بالفرية العظيمة، ولم يدر في خلدها رضي الله عنها أن الأمر خير لها، بل لم يكن أحد يظن أن قذف عائشة رضي الله عنها ستكون عاقبته خيرا لها.
ثم نزلت براءتها في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وفيها قوله تعالى :(لاتحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم) وأجمع أهل العلم بعد ذلك أن من قذف عائشة رضي الله عنها، فقد كفر وكذَّب الله عز وجل.
الوقفة التاسعة عشرة: عبرة في زوال الدنيا:
حين استيقظ الفتية تساءلوا عن لبثهم، فقالوا يوماً ثم استدركوا قائلين: بعض يوم، وهذه حقيقة الدنيا فهي كلها بما فيها ستتحول يوم القيامة إلى ساعة من نهار، وسيكون منطق أهلها حين يبعثون كمنطق الفتية حين استيقظوا (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم).
هذه بعض الوقفات وهي -كما قلت – ليست تفسيراً لهذه السورة ولا لهذه الآيات، إنما هي إشارات وعبر، وكلما قرأنا هذه الآيات ووقفنا عندها سوف نستنبط منها دروساً وعبراً أعجب وأعظم مما يبدو لنا، وهذا من عجائب القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يمل منه الإنسان، وكل يوم يتدبر فيه ويتلوه يستنبط فوائد جديدة لم يكن يستنبطها من ذي قبل، وهذا كلام الله عز وجل لا يمكن أبداً أن يقاس بكلام خلقه.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم جميعاً وأن يهدينا وإياكم إلى صراط مستقيم إنه سميع مجيب هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
تم بحمد الله وتوفيقه.