أرشيف الفتاوى

العمل في الجمارك

السؤال ( 99 )

ما هو الحكم الشرعي في عمل المسلم في إدارة الجمارك ، التي يخالطها أخذ ضرائب جمركية على التجار وغيرهم ، حيث أن الضرائب هي المكوس التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله عن الغامدية حين تابت : ” لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لكفته ” رواه البخاري ، أفتونا مأجورين حيث أني موظف أعمل في الجمارك علما بأني ليست لي صلة مباشرة لتحصيل تلك الضرائب الجمركية ، وكذلك لا يخفى عليكم بأن الجمارك لا تختص بتحصيل الضرائب الجمركية ، بل تحمي البلاد والعباد من سموم المخدرات وغيرها .

أفتونا مأجورين وجزاكم الله خيرا .

الجواب :

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وآله وصحبه أجمعين وبعد :
فإذا كان الأمر كما ذكرت : من أن عملك لا علاقة له مباشرة بتحصيل تلك الضرائب الجمركية ، أو حسابها أو كتابتها ، فلا حرج عليك في البقاء على عملك  لأنه ، لا معونة فيه على ما حرم الله تعالى .
على أن الضرائب ليست محرمة على الإطلاق كما بين أهل العلم ، بل تجوز بضوابطها ، كأن لا تكفي الزكاة في سد حاجات الفقراء والمساكين والمجاهدين في سبيل الله تعالى ، فيفرض الإمام ما يكفي لسد حاجاتهم على الأغنياء من غير أن يضر بهم ، أخذا من قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الآية .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ” المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يُسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة .. ” متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
وأيضا : فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فإذا احتاج المسلمون إلى تجهيز الجيوش التي تحميهم ، وتكفيهم شر الكفار ، ولم يوجد في خزانة الدولة ما يكفي ، جاز فرض ضرائب على الناس ، بقدر ما يحقق المصلحة من غير إضرار بهم .
وأيضا : يتحمل الضرر الخاص ، لدفع ضرر عام ، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
قال الإمام الشاطبي رحمه الله : ” إنا إذا قدرنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود لسد حاجة الثغور ، وحماية الملك المتسع الأقطار ، وخلا بيت المال ، وارتفعت حاجة الجند إلى مال يكفيهم ، فللإمام إذا كان عدلا أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال ، إلى أن يظهر مال في بيت المال ، ثم إليه – أي إلى الإمام – النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك ” .
” وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين – أي في عهود الإسلام السابقة – لاتساع بيت المال في زمانهم ، بخلاف زمننا ، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك بطلت شوكة الإمام ، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار ، وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام ، فالذين يفرون من الدواهي ( أي الضرائب المفروضة عليهم ) ولو تنقطع عنهم الشوكة ، لحقهم من الأضرار ما يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها ، فضلا عن اليسير منها ، فإذا عرض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق بهم بأخذ البعض من أموالهم ، فلا يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول ” الاعتصام (2/104) بتصرف .
وبنحوه قال الغزالي في المستصفى ( 1/303) .
واشترط الفقهاء شروطا لجواز جمع الضرائب :
أولها : أن تكون الحاجة إلى المال حقيقية ، بحيث يخلو بيت المال ، ولا يوجد من الموارد الشرعية الأخرى كالزكاة والفيء ما يسد الحاجة ، لئلا يُسرف الحاكم في طلب الأموال من الرعية ، بحاجة وبغير حاجة ، فيدخل ذلك في المكوس الجائرة المحرمة .
والثاني : أن تكون توزيع أعباء الضريبة بين الناس بالعدل ، فلا تحابي طائفة ، ويؤخذ من أخرى بغير مسوغ ، وأن يؤخذ من الغني ما يتناسب مع غناه ويؤخذ ممن هو دونه ما يناسبه ، ويعفى عن الفقير والمحتاج .
والثالث  : أن تنفق هذه الأموال المجموعة بالضرائب في مصالح المسلمين العامة ، لا في شهوات الولاة وترف الخاصة .
والرابع : أن يكون فرضها بمشورة أهل الحل والعقد ورجال الشورى ، لأن الأصل في الأموال الحرمة ، والأصل أيضا : براءة الذمة من التكليف ، فلا بد عند فرض ضريبة ما أن يرجع إلى أهل الاختصاص والخبرة ، لتقدير مقاديرها وأهلها ومصارفها وغير ذلك ، أما ما يؤخذ من الناس بغير حق ، أو يصرف في غير حق ، ويتضرر به الفقراء فهذا يدخل في المكوس المحرمة .
والله أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .

زر الذهاب إلى الأعلى