من بدع البشر بشهر صفر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد
شهر صفر هو أحد شهور السنة الهجرية الإثنى عشر وهو الشهر الذي بعد المحرم ، قال بعضهم : سمِّي بذلك لإصفار مكَّة من أهلها ( أي خلّوها من أهلها ) إذا سافروا فيه .
وقيل : سَمَّوا الشهر صفراً لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل ، فيتركون من لقوا صِفْراً من المتاع ( أي يسلبونه متاعه ) . لسان العرب لابن منظور .
وكان للعرب في شهر صفر منكران عظيمان : الأول : التلاعب فيه تقديما وتأخيرا . والثاني : التشاؤم منه .
أما الأول : فمن المعلوم أن الله تعالى خلق السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعةً حرم ، حرَّم الله تعالى فيها القتال تعظيماً لشأنها ، وهذه الأشهر هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب .
وذلك في قوله تعالى { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } [ التوبة / 36 ] .
وقد كان المشركون يعلمون ذلك ، لكنهم كانوا يؤخرون فيها ويقدمون على أهوائهم ، فإذا احتاجوا للقتال في الشهر المحرم نقلوه لما بعده ، فربما جعلوا شهر ” صفر ” محرما بدلاً من ” المحرَّم ” !!
وهو النسيء الذي ذكره الله عنهم بقوله ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ماحرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لايهدي القوم الكافرين ) التوبة : 37 .
وهو من جملة أعمالهم الفاسدة ، وبدعهم الباطلة ، وقلبهم للحق باطلا ، والباطل حقا ، وهو كما أخبر الله تعالى زيادة في كفرهم وضلالهم .
وهو أيضا مما يؤدي إلى تبديل الحج ، قال مجاهد : { إنما النسيء زيادة في الكفر } قال : حجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين ، حتى وافت حجة أبي بكر في ذي القعدة ، ثم حج النبي في ذي الحجة ، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في خطبته : ” إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ” ، رواه ابن عباس وغيره .
” أحكام القرآن ” ( 2 / 503 – 504 ) لابن العربي .
وكانوا يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرَّم صفراً ، ويقولون : إذا برأ الدَّبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر : حلَّت العمرة لمن اعتمر .
رواه البخاري ( 1489 ) ومسلم ( 1240 ) .
والثاني من منكراتهم : التشاؤم من شهر صفر ! فقد كان مشهوراً عند أهل الجاهلية ولا زالت بقاياه في بعض من ينتسب للإسلام .
فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا عدوى ولا طيرة ولا هامَة ولا صَفَر ، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد ” .
رواه البخاري ( 5707 ) ومسلم ( 2220 ) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
و ” صفر ” فُسِّر بتفاسير :
الأول : أنه شهر صفر المعروف ، والعرب يتشاءمون به .
الثاني : أنه داء في البطن يصيب البعير ، وينتقل من بعير إلى آخر ، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام .
الثالث : صفر : شهر صفر ، والمراد به النسيء الذي يُضل به الذين كفروا ، فيؤخرون تحريم شهر المحرم إلى صفر ، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً .
وأرجحها : أن المراد : شهر صفر ، حيث كانوا يتشاءمون به في الجاهلية .
والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله عز وجل ، فهو كغيره من الأزمنة يُقدَّر فيه الخير والشر .
وبعض الناس إذا انتهى من عمل معين في اليوم الخامس والعشرين – مثلاً – من صفر أرَّخ ذلك وقال : انتهى في الخامس والعشرين من شهر صفر الخير ، فهذا من باب مداواة البدعة بالبدعة ، فهو ليس شهر خير ولا شر ؛ ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال : ” خيراً إن شاء الله ” ، فلا يقال خير ولا شر ، بل هي تنعق كبقية الطيور .
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة وألا يضعف الملم أمام هذه الأمور .
وإذا ألقى المسلم بالَه لهذه الأمور فلا يخلو من حالين :
الأولى : إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم ، فيكون حينئذٍ قد علَّق أفعاله بما لا حقيقة له .
الثانية : أن لا يستجيب بأن يقدم ولا يبالي ، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم ، وهذا وإن كان أهون من الأول لكن يجب أن لا يستجيب لداعي هذه الأمور مطلقاً ، وأن يكون معتمداً على الله عز وجل .
والنفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفياً للوجود ؛ لأنها موجودة ، ولكنه نفي للتأثير ، فالمؤثر هو الله ، فما كان سبباً معلوماً فهو سبب صحيح ، وما كان سبباً موهوماً فهو سبب باطل ، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه ولسببيته …
” مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين ” ( 2 / 113 ، 115 ) .
والله الموفق لكل خير .
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء للخلاص من الطيرة والتشاؤم ، كما في الحديث عنه : ” من ردته الطيرة ، فقد قارف الشرك ”
قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال :” يقول أحدكم : اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك ، ولا إله غيرك ” .
رواه ابن وهب في الجامع وأحمد ، وصححه الألباني ( الصحيحة 1065 ) .
والله الموفق لكل خير ، والمنجي من كل شر .
والحمد لله رب العالمين ،،،