وسطية أهل السنة في أفعال العباد -4 –
قد بينا فيما سبق أن أمة الإسلام وسط بين الأمم ، كما قل تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) البقرة .
وأن أهل السنة والجماعة وسط بين الفرق وأهل الأهواء والبدع .
ومن ذلك ” أفعال العباد ” وعلاقتها بالخالق سبحانه .
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى : وهم – أي أهل السنة والجماعة – وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية . [ الواسطية ص 186] .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : وقصّر بقوم حتى قالوا : إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ، وشاءها منهم , ولكنهم يعملونها بدون مشيئة الله تعالى وقدرته !! وتجاوز بآخرين حتى قالوا : إنهم لا يفعلون شيئا ألبته , وإنما الله سبحانه هو قائل تلك الأفعال حقيقة , فهي نفس فعله لا أفعالهم , والعبيد ليس لهم قدرة ولا فعل ألبته ! ( إغاثة اللهفان) .
فقد ضل في باب أفعال العباد طائفتان : الجبرية : وهم الجهمية القائلون : إن العباد لا إرادة لهم ! ولا قدرة لهم على فعل الطاعات , ولا ترك المنهيات , وهم مجبورون على فعل ذلك كله !! وهذا غلو وتطرف .
فالعبد عندهم مجبور على فعله , وحركاته وأفعاله اضطرارية كحركة المرتعش ، والعروق النابضة , وكحركات الأشجار في مهب الريح , وإضافتها إلى الخلق مجاز !! وإنما الله هو فاعل تلك الأفعال , فهي فعله حقيقية لا أفعالهم , فعندهم أن المؤمنين ما صلوا ولا صاموا ، ولا زكوا ولا حجوا , والمجرمون ما كفروا ولا كذبوا ولا سرقوا ولا زنوا !!
قال ابن مانع رحمه الله تعالى : وكذا قال الأشعري وأتباعه : إن المؤثر في المقدور قدرة الرب دون قدرة العبد انتهى .
وقابلهم على الطرف الآخر : ” القدرية ” وهم جمهور المعتزلة القائلون : إن الله تبارك وتعالى قد أمر العباد بطاعته , ونهاهم عن معصيته , ولا يعلم من يطيعه ممن يعصيه ، إلا بعد حصول الطاعة والمعصية !! وهم نقيض الجبرية .
وقال أهل الحق : أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة , وهي مخلوقة لله تعالى , والحق سبحانه منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه , ومن ذلك أفعالهم كما قال سبحانه ( والله خلقكم وما تعملون ) {الصفات : 96 } .
وقال ( وأسروا قولكم أو اجهروا به انه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق ) {تبارك: 12-13 } .
فالجبرية غلوا في إثبات القدر , فنفوا فعل العبد أصلا !
والمعتزلة نفاة القدر , جعلوا العباد خالقين مع الله , ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ” القدرية مجوس هذه الأمة , إن مرضوا فلا تعودوهم , وإن ماتوا فلا تشهدوهم ” رواه أبو داود .
وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه , والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم , فقالوا : العباد فاعلون والله خلقهم وخلق أفعالهم كما تقدم , وأن كل شيء بقضاء الله وقدره كما قال تعالى ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) {القمر : 49 } .
وقال سبحانه ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) {الفرقان : 2} .
وأن الله تعالى شاء إن يقع الكفر من الكافر , لكنه لا يرضاه ولا يحبه , فيشاؤه كونا وخلقا , ولا يرضاه دينا .
وخالف في ذلك القدرية فزعموا : إن الله شاء الإيمان من الكافر ، ولكن الكافر شاء الكفر , فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى !! وهذه من أقبح الاعتقاد , وهو قول لا دليل عليه بل مخالف للدليل .
فقد قال عز وجل ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) {السجدة : 13} فقال ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) {يونس : 99} .
ومنشأ الضلال عند الفريقين : من التوبة بين المشيئة والإرادة , وبين المحبة والرضا ، أي : ظنوا أن كل ما شاءه الله وأراده فقد أحبه ورضيه .
ثم اختلفوا , فقالت الجبرية : الكون كله بقضاء الله تعالى وقدره ، وكله محبوب له !! وقالت القدرية النفاة : ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له , فليست مقدرة ولا مقضية , فهي خارجة عن المشيئة والخلق .
وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة : الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة , أما نصوص المشيئة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها , وأما نصوص المحبة والرضا فقال تعالى ( والله لا يحب الفساد ) {البقرة : 205} (ولا يرضى لعباده الكفر) { الزمر : 7 } .
فان قيل : كيف يريد الله أمرا ولا يرضاه ولا يحبه ؟! وكيف تجتمع إرادته له وبغضه وكراهته ؟! فالجواب : إن المراد نوعان : مراد لنفسه ، ومراد لغيره , فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير , ومراد لغيره , لا يكون مقصودا ً للمريد لذاته , وإنما هو وسيلة إلى مقصوده ومراده , فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته , مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده , فيجتمع فيه الأمران : بغضه وإرادته .
مثاله الدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه , وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده , وقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه .
وفي خلق الكفار والمنافقين وإبليس وجنده من الحكم شيء عظيم ، ليس هذا مجال تفصيله , والحالة تحتاج إلى مزيد بسط ومحل ذلك المطولات في العقيدة كشرح العقيدة الطحاوية وغيرها (1 ).
والله الهادي والموفق للصواب والحمد لله رب العالمين .
___________________
1- راجع شرحنا للطحاوية ( ص 271 وما بعدها )