الحسبة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله , وشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى له وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين , وسلم تسليما كثيرا 0
وبعد :
فإنه لا يمكن أن تبنى حضارة ما يعيش أفرادها حياة فوضوية ، ليس للحرية عندهم حد تقف فيه , وضابط تلتزم به 0
والإسلام – دين الله الحق – لا يعرف هذه الحرية المطلقة , لأن الفرد المسلم يقر بعبودية الله تعالى  , ربه ورب العالمين , وسيده ومالكه , يعمل بأوامره , وينزجر  بزواجره , وكل عبودية فهي ذل ومهانة إلا العبودية لله تعالى فإنها شرف ورفعة وكرامة 0
كما يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : كفاني فخرا أن أكون لك عبدا , وكفاني عزا أن تكون لي ربا 0

بل ولا القوانين الوضعية الأرضية تعرف هذه الحرية المنفلتة , لأنها تضع لحريات أفرادها الضوابط التي تريدها هي , وتتوافق مع ميولها وأهوائها 0
وإذا كانت بعض هذه الأنظمة والضوابط والقيود موجودة عند غير المسلمين , فإن المسلمين يوجد عندهم من الضوابط الشرعية ، المتلقاة من الوحي والرسالة ما يعم كافة شئون حياتهم , وهو أضعاف ما عند غيرهم  ، ولا تعرف حضارة كحضارتهم : نظاما وترتيبا وخلقا 0
بل إن الشرق والغرب متأثر بحضارة المسلمين وشريعتهم ونظامهم ، باعتراف المنصفين منهم 0
وما هذه الضوابط إلا جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لا تصلح حياة الناس إلا به  , وهي إذ تأملتها وجدتها متعلقة بالأخلاق التي أمر الله تعالى بها ورسوله صلى الله عليه وسلم من : التقوى والأمانة والصدق والوفاء بالوعد والعهد , وحب الخير للغير والرحمة وغيرها من الفضائل .
مضادة لما نهى عنه من : الكفر والخيانة والكذب وإخلاف الوعد ونقص العهد والأثَرة والقسوة والغش والخداع والتحايل ، وأكل أموال الناس بالباطل , وغير ذلك من الأخلاق 0
وما برح الناس – في مختلف العصور –  في حاجة إلى من يعلمهم إذا جهلوا , ويذكرهم إذا نسوا , ويجادلهم إذا ضلوا , ويكف بأسهم إذا أضلوا .
ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، سبيل النبيين والمرسلين , وطريق المرشدين الصادقين من أتباعهم , ومنهاج الهادين الصالحين , وكان أمرا متبعا ، وشريعة ضرورية , ومذهبا واجبا , سواء في ذلك سميت باسم ” الحسبة ” أو باسم آخر ، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وقد صارت بسببها هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس ، قال تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) آل عمران: ١١٠ .

وعن أبي بكر رضي الله عنه : أنه خطب الناس فقال : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية : (  يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) [ المائدة: ١٠٥ ] . فتضعونها في غير موضعها , وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أوشك الله أن يعمهم بعقابه ” 0 رواه أحمد وأصحاب السن إلا النسائي .

ولأجل ذلك عهد الشارع الحكيم إلى الأمة أن تقوم طائفة منها على الدعوة إلى الخير ، وإسداء النُصح للأفراد والجماعات , ولا تخلص من عهدتها حتى تؤديها طائفة على النحو الذي هو أبلغ أثرا في استجابة الدعوة , وامتثال الأوامر واجتناب النواهي ” 0
فنظام “الحسبة ” في الإسلام إذا يسعى لإصلاح الأمة ، ومعالجة الخطأ دينيا أو دنيويا , فإن الإسلام هو الدين الشامل الكامل ، للدنيا والآخرة ، والأفراد والجماعات 0
وبذلك تتحقق أكمل وأفضل حياة للمجتمع المسلم خاصة , ولمن يخالطهم أو يجاورهم من المجتمعات عامة 0

ويتميز هذا النظام في الإسلام بكونه : وظيفة دينية , وواجبا مقدسا , يؤجر عليه الفرد والجماعة , الحاكم والمحكوم , الذكر والأنثى , وكل من يقوم به من المسلمين , محتسبا للأجر والمثوبة عند الله تعالى 0

وقد أهمل كثير من المسلمين هذا الواجب حتى كاد أن يكون القائم به عند بعضهم : عاملا ما لا ينبغي له ! متدخلا في شئون غيره !
مخالفا لحرية الرأي والعمل عندهم ! زعموا !!

ورحم الله الإمام النووي إذ يقول : ” واعلم أن هذا الباب – أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة , ولم يبق منه في هذا الأزمان إلا رسوم قليلة جدا , وهو باب عظيم ، به قوام الأمر وملاكه , وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح , وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه : ”  فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ” [ النور 63] .
فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب , فإن نفعه عظيم لاسيما وقد ذهب معظمه , ويُخلص نيته , ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته , فإن الله تعالى قال ولينصرن الله من ينصره ”  [ الحج 40] .
وقال تعالى : ” ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ” [آل عمران 101] . وقال تعالى : ” والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ”  [ العنكبوت 69]  .
وقال تعالى : ” أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ” [العنكبوت: ١ – ٣ ] .

ثم قال رحمه الله : واعلم أن الأجر على قدر النصب , ولا يتاركه أيضا لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده , ودوام المنزلة لدية , فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا , ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته , وينقذه من مضارها , وصديق الإنسان ومُحِبُّه هو من سعى في عمارة آخرته ، وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه , وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته ، وإن حصل بسبب ذلك نفع في دنياه , وإنما كان إبليس عدوا لنا لهذا , وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين ، لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها . ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته , وأن يعمنا بجوده ورحمته ، والله أعلم 0   (شرح مسلم 2/24)
فاللهم اجعلنا هداة مهتدين ، صالحين مصلحين ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ن برحمتك ياأرحم الراحمين .