هل يجوزالصلح مع اليهود
السؤال : هل يجوز للمسلمين الصلح مع اليهود أو النصارى ؟
الجواب :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، وآله وصحبه أجمعين
وبعد :
نعم فالصلح خيار شرعى ورد بالكتاب الكريم ، والسنة المطهرة .
قد تصاب بالعجب عندما تجد نفسك فى حاجة لإثبات ما هو ثابت ومستقر وبديهى من شرع الله تعالى ودينه ، وهذا هو حالنا مع من أنكر جواز الصلح بين المسلمين وخصومهم من المشركين وأهل الكتاب ، فالمسألة أوضح من أن يمارى فيها ممار ، وأدلتها مبسوطة فى الكتاب والسنة ، وباب ” الصلح والموادعة ” من أبواب أى كتاب حديثي مسند ، ومتن فقهى يقع بيديك .
ففي صحيح البخاري مثلا ( 5/ 304 ) في كتاب الصلح : باب الصلح مع المشركين .
ثم روى بسنده : عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء : من أتاه من المشركين رده … ” الحديث .
وكذا صالح النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة ، وفي خيبر ، كما هو مشهور في الأحاديث والسيرة النبوية .
وإذا كان الأمر كذلك ، فمن أين جاء الخطأ لهؤلاء المنكرين للصلح ؟
إن ما يرددوه المخالفون من استدلالات ببعض الآيات القرآنية ، كقوله تعالى : ( فلا تهنوا ولا تحزنوا وتدعوا الى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ) ( محمد : 35 ) . والتى ظاهرها قد يدل على منع اللجوء إلى السلم والصلح !!
أو الاحتجاج ببعض الأدلة العامة التى تمنع وتحرم تولى الكفار ، ومن ثم يعتبرون أن الصلح نوع من الموالاة الممنوعة لأعداء الله ؟!!
هو من الخطأ الواضح ! والمغالطة للأدلة !
لأن المستدل بالأدلة الشرعية لابد له من جمعها كلها ، ولا يجوز له إهمال بعضها ، ولا بد له أيضا من تفسير هذه الأدلة على ضوء باقى الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم العملية التى تمس الموضوع .
ولو تأمل هؤلاء فى قوله تعالى : ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ) ( الأنفال : 61 ) .
لعلموا أن الصلح جائز ومشروع إذا دعت إليه الحاجة ، أو كان فيه مصلحة للإسلام وأهله .
قال الحافظ ابن كثير (2/290) في تفسير الآية : أي : إذا مالوا أي المصالحة والمسالمة والمهادنة ( فاجنح لها ) : أي مل إليها ، واقبل منهم ذلك ، ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ، ووضع الحرب بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم تسع سنين أجابهم إلى ذلك ، أجابهم إلى ذلك ، مع ما اشترطوا من الشروط الأخرى اهـ
والسؤال ههنا : هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم ؟ أو لم يعمل بدلالة قوله تعالى : ( فلا تهنوا وتدعوا للسلم وأنتم الأعلون ) وهو الذى أنزل عليه القرآن ، وبلغه لأمته وطبقه عملياً بين ظهرانيهم ؟!
فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعاهد قريشاً أو اليهود ، واقعاً فى موالاة ممنوعة ؟! حاشا وكلا ، وهو النبى المعصوم صلى الله عليه وسلم .
وقد يقول قائل : إن الصلح لا يجوز إلا إذا جنح الخصوم إليه ، وطلبوه من أهل الإسلام ، وذلك لأن الله تعالى يقول : ( و إن جنحوا للسلم فاجنح لها ) وهذا فهم ليس بصحيح ، يقول الإمام ابن قيم الجوزية عند استعراضه للفوائد الفقهية المأخوذة من صلح الحديبية فيقول : ” ومنها جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو ، إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه ، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم اهـ .
وهذا أمر واضح مأخوذ من فعله صلى الله عليه وسلم ، عندما عرض ابتداء على غطفان إعطاءهم ثلث ثمار المدينة كى ينصرفوا عن قتاله ومحاصرتهم المدينة مع الأحزاب فى غزوة الخندق .
بل الفقهاء كافة قد قرروا جواز المصالحة ، بل قد أوجبوها فى حالات معينة .
يقول صاحب زاد المستقنع : ” والهدنة عقد الإمام أو نائبه على ترك القتال مدة معلومة ولو طالت بقدر الحاجة ”
قال الشيخ ابن عثيمين معلقا ( 8/ 50 ) : … كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية اهـ
وفى ذلك يقول الشافعى الصغير” كتاب الهدنة ” : من الهدون وهو السكون لسكون الفتنة بها ، إذ هى لغة : المصالحة ، وشرعاً : مصالحة أهل الحرب على ترك القتال المدة الآنية بعوض أو غيره ، وتسمى موادعة ومسالمة ومعاهدة ومهادنة ، والأصل فيها قبل الإجماع أول سورة براءة ، ومهادنته صلى الله عليه وسلم قريشاً عام الحديبية وكانت سبباً لفتح مكة ، لأن أهلها لما خالطوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلم منهم خلق كثير أكثر ممن أسلم قبل . وهى جائزة لا واجبة أصالة ، وإلا فالأوجه وجوبها إذا ترتب على تركها لحوق ضرر لنا ، لا يمكن تداركه ا هـ .
ويقول صاحب الهداية الحنفى : ” فإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقاً منهم و كان فى ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به ، لقوله تعالى ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) ( الأنفال : 61) . ووادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية ، على أن يضع الحرب بينه و بينهم عشر سنين ، ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان فيه خير للمسلمين ، لأن المقصود هو دفع شر حاصل به ، ولا يقتصر الحكم على المدة المروية لتعدى نبى إلى ما زاد عليها اهـ
وهل الصلح جائز فقط فى حالة الضعف ؟
قد يقصر البعض جواز الصلح على حالة واحدة ، وهى : قيام حالة الضعف بالمسلمين ، والصواب أن الصلح جائز متى كان يحقق مصلحة للدين وأهل الإسلام ، بغض النظر عن توفر القوة أو الضعف .
وفى هذا المعنى يقول الشافعى الصغير : وإنما تعقد لمصلحة كضعفنا لقلة عدد وأهبة ، إذ هو الحامل على المهادنة عام الحديبية ، أو رجاء إسلامهم ، أو بذل الجزية ، أو إعانتهم لنا أو كفهم عن إعانة علينا ، أو بعد دارهم ، ولو مع قوتنا فى الجميع اهـ .
وقول الشافعى الصغير السابق يبين أوجه الصلح ومصالحه العظيمة ، كحكم شرعى ، يلبى احتياجات الدولة المسلمة كلها ، وفي مواجهة الظروف المختلفة ، التى قد تجعل في الصلح فائدة تربو على مصلحة القتال .
قال أهل العلم : ومن تأمل فى تجدد الأحداث والوقائع ، علم أن الواقع قد يأتى بأمور توجب الكف عن قتال البعض ، لظهور أعداء جدد أو لحدوث تغيير فى المواقف بما يرجى معه ممن يصالح ، أن يصير نصيراً للدين ، إلى غير ذلك مما يحتاج إلى تعامل شرعى سديد وحساب دقيق ونظر عميق اهـ
وهل يجوز الصلح مع اليهود ؟!!
نعم ، السنة المطهرة أثبتت ، وفعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم جواز الصلح مع اليهود ، إذا اقتضت مصلحة المسلمين إبرام هذا الصلح .
والمصلحة يقدرها أصحاب الاختصاص من كبار العلماء ، وولاة الأمور ، وأهل الحل والعقد .
ومن الأدلة على جواز الصلح مع العدو بصفة عامة ، ومع اليهود بصفة خاصة : وثيقة المدينة والتي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم حال وصوله للمدينة ، مع اليهود ، ولم يخالف صلى الله عليه وسلم شيئاً من بنودها ، حتى غدرت اليهود ونقضت عهدها ، فاتخذ صلى الله عليه وسلم حكمه بمحاسبتهم ، بقتل بعضهم ، ونفي الآخر وطرده من المدينة .
وقريش هي العدو الأكبر للدعوة النبوية ، وهي من حمل لواء مطاردة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة بل والجزيرة كلها ، وقد واجهت المسلمين مع بداية هجرتهم بعدد من الغزوات الكبرى ، أولاها بدر ، ثم أحد ، ثم الأحزاب ( الخندق ).
مع هذا كله وافق النبي صلى الله عليه وسلم على مصالحتهم في صلح الحديبية ، والذي كان غالب بنوده تفيد ظاهراً تنازل المسلمين وموافقتهم لشروط الكفار من ذلك موافقته صلى الله عليه وسلم على عدم البدء باسم الجلالة ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وتبديلها بـ اسمك اللهم ، موافقة لمندوب قريش ، ومنها موافقته صلى الله عليه وسلم على حذف عبارة رسول الله لاعتراض مندوب قريش عليها والاكتفاء بعبارة محمد فقط ومنها موافقته صلى الله عليه وسلم على رد من لحق بالمسلمين من قريش من الرجال إلى قريش .
وهذه وغيرها أثارت غضب بعض كبار الصحابة ، ومنهم عمر رضي الله عنه وسهل بن حنيف رضي الله عنه ، حتى قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قال: فلم نعط الدنية في ديننا إذا ؟ لكنه رضي الله عنه رضي بحكم النبي صلى الله عليه وسلم واستغفر وأناب واعتذر ، بل كان وجلاً من أن ينزل فيه قرآناً يتلى أو عقوبة ونحوها .
وهذا الصلح – صلح الحديبية – كان كما وصفه الله تعالى ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) ( الفتح : 1 ) .
وهكذا بين العلماء وأهل التفسير والسيرة أنه كان فتحاً عظيماً ، إذ أمن الناس على أنفسهم وسهل لهم التنقل والتلاقي ، وتفرغوا لمعرفة الإسلام ، والأخذ عن أهله ، ودخل في مدة الصلح الألوف من الناس ، فكان على عكس ما ظنه المشركون ذلا للإسلام وأهله ، وانحسارا لسلطانهم ودولتهم .
وعلى إثر ذلك بدأت الوفود ترد للمدينة جماهات جماعات ، تبايع النبي صلى الله عليه وسلم ، وتعلن إسلامها ودخولها في دين الله أفواجا ، والحمد لله رب العالمين .
هذا شيء من البيان لهذه المسألة المهمة .
وقد وردت في المسألة فتاوى كثيرة لعلماءنا موجودة في مظانها لمن أرادها
والله تعالى أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم