أحكام الاعتكاف واعتكاف النساء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد :
الاعتكاف هو لزوم المسجد للتعبد وطاعة الله تعالى .
قال ابن رجب رحمه الله : فمعنى الاعتكاف وحقيقته : قطع العلائق عن الخلائق ، للاتصال بخدمة الخالق .
وهو سنة مستحبة ، لا خلاف في استحبابه ، لحديث عائشة رضي الله عنها : ” كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده ” متفق عليه .
ولا يجب إلا بالنذر .
ويشترط لصحته : الإسلام ، فلا يقبل من كافر .
والنية ، فإنما الأعمال بالنيات .
والعقل والتميز ، لأن النية لا توجد من المجنون ولا من الطفل الصغير .
وأن يكون بالمساجد لا بالبيوت ، لقوله تعلى ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) ( البقرة : 187 ) .
وأفضلها المساجد الثلاثة : المسجد الحرام ، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى .
وروى البخاري عن أبي هريرة قال : ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما .”
واختلف في اشتراط الصوم له ، وقال ابن العربي : بأنه سنة مؤكدة ، وكذا قال ابن بطال .
وقضاؤه الاعتكاف في شوال ، فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن شوال الأصل فيه الفطر .
لكن يقال : في مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الصوم فيه ما يدل على تأكده .
وقال أحمد : لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أنه مسنون انتهى .
قيل : ولا يعرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف وهو مفطر قط .
ويجوز للمعتكف الخروج لحاجته ، كالخروج لقضاء الحاجة والاغتسال وجلب الطعام إذا لم يكن له من يخدمه .
قالت عائشة رضي الله عنها : السنة للمعتكف ، ألا يخرج إلا لما لا بد منه . رواه أبو داود ، وصححه الألباني في الإرواء ( 4/ 147 ) .
وله أن يخرج رأسه من المسجد ليغسل ويسرّح .
قالت عائشة رضي الله عنها : وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو معتكف في المسجد ، وأنا في حجرتي فأرجله – وفي رواية : فأغسله – وإن بيني وبينه لعتبة الباب وأنا حائض ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفاً .
رواه البخاري ومسلم .
وله أن يتخذ خيمة صغيرة في مؤخرة المسجد يعتكف منها ، لأن عائشة رضي الله عنها كانت تضرب للنبي صلى الله عليه وسلم خباء إذا اعتكف .
وكان ذلك بأمر منه صلى الله عليه وسلم .
وله أن يضع فراشه أو سريره فيها ، فعن ابن عمر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف طرح له فراش ، أو يوضع له سرير وراء اسطوانة التوبة . رواه ابن ماجة والبيهقي وسنده حسن .
ويدخل معتكفه بعد الغروب .
قال البغوي رحمه الله : إذا أراد اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان يدخل قبل غروب الشمس يوم العشرين ، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي .
وعن مالك : أنه رأى أهل الفضل إذا اعتكفوا العشر الأواخر من رمضان ، لا يرجعون إلى أهليهم حتى يشهدوا العيد مع الناس .
حكمة الاعتكاف :
قال ابن رجب في اللطائف : وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في هذه العشر قطعاً لأشغاله ، وتفريغاً لباله ، وتخلياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه ، وكان يحتجر حجراً يتخلى فيها عن الناس .
ولهذا ذهب الإمام إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء القرآن ، بل الأفضل له الإنفراد بنفسه وهو الخلوة الشرعية لهذه الأمة ، وإنما كان في المساجد لئلا يترك به الجمعة والجماعات ، فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه ، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه ، فما بقي له سوى الله وما يرضيه عنه .
فمعنى الاعتكاف وحقيقته : قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق ، وكلما قويت المعرفة والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إليه بالكلية على كل حال .
حكم اعتكاف المرأة :
ويشرع للمرأة أن تعتكف ، إذا استأذنت زوجها أو وليها بذلك ، وكان المكان آمنا .
فعن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : ” كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ، فكنت أضرب له خباءاً فيصلي الصبح ثم يدخله ، فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباءاً ، فأذنت لها فضربت خباء ، فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباءاً آخر .
فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأخبية ، فقال : ” ما هذا ؟ ” فأخبر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” آلبر ترون بهن ؟ ” فترك الاعتكاف ذلك الشهر ، ثم اعتكف عشراً من شوال ” رواه البخاري .
وذكر العلماء في سبب نقض رسول الله صلى الله عليه وسلم الخباء أمورا :
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم خشى أن يكون الحامل لهن على ذلك المباهاة أو التنافس الناشئ عن الغيرة حرصاً على القرب منه خاصة ، فيخرج الاعتكاف عن الإخلاص والعبادة ، كما في قوله ” آلبر تردن ؟ ” .
2- أنه لما أذن لعائشة وحفصة أولاً كان ذلك خفيفاً بالنسبة إلى المسجد ، لكن توارد بقية النسوة على ذلك ، يضيق المسجد على المصلين .
3- أن اجتماع النسوة عنده يصيره كالجالس في بيته ، وربما شغلنه عن التخلي للعبادة والذكر ، فيفوت مقصود الاعتكاف .
والحديث فيه من الفوائد :
1- شؤم الغيرة وضررها ، لأنها ناشئة عن الحسد المفضي إلى ترك الأفضل من الأقوال والأعمال .
2- وجواز ضرب الأخبية في المسجد إذا لم تضيق على أهل المسجد .
3- جواز الخروج من الاعتكاف بعد الدخول فيه ، وأنه لا يلزم بالنية ولا بالشروع فيه إذا كان مستحبا ، ويستنبط منه أن سائر التطوعات كذلك ، خلافاً لمن قال باللزوم ، إلا الحج والعمرة .
وسئل العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى عن اعتكاف المرأة :
لا باس أن تعتكف المرأة في المسجد الحرام أو المسجد النبوي ، أو أي مسجد آخر بشرط أن لا يكون هناك فتنة ، والمشاهد للمسجدين الشريفين : المسجد الحرام والمسجد النبوي يرى أن الأفضل أن لا تعتكف المرأة في المسجد ، لأنها لا يمكن أن تنفرد بمكانها بخلاف الأمر في عهد الرسول فإنه يمكن أن تضرب المرأة خباءاً لها في المسجد وتبقى فيه ، لكن في الوقت الحاضر لا يمكن هذا ، فيحصل في اعتكافها من الشر والبلاء والفتنة ما لا ينبغي أن يكون في المسجدين ، ربما تنام المرأة في مكانها فيمر الناس منها ذاهبين وراجعين وربما تتكشف ، لأن بعض الناس إذا نام لا يحس بنفسه ، بل أكثر الناس .
لذا نرى أنه لا ينبغي للمرأة أن تعتكف في المساجد ، لكن لو فرض أن هناك مساجد غير الحرمين فيها أماكن خاصة بالنساء وأرادت أن تعتكف المرأة فيها فلا بأس ، لكن بشرط : أن لا تضيع شأن بيتها وزوجها وأولادها ، لأن مراعاة بيتها وزوجها وأولادها أهم من أن تعتكف في المسجد ، هو الأفضل لها ، لأنها تؤدي واجباً والاعتكاف ليس بواجب . انتهى كلامه رحمه الله .
ويمكن أن نقول أن شروط اعتكاف المرأة في المسجد هي :-
1- أن تكون المرأة طاهراً من الحيض والنفاس (عند جمهور الفقهاء).
2- أن يكون بإذن الزوج أو الولي ، فلا يحق لها الاعتكاف الإ بإذنهما .
3- أن يكون اعتكافها في مكان خاص بالنساء لا يطلع عليه الرجال ، أما إذا حصل الاختلاط فتحرم ذلك .
4- أن تأمن على نفسها الفتنة ، فإن خشيت على نفسها الفتنة لكون المكان غير آمن أو منعزل أو غير ذلك ، حرم عليها الاعتكاف .
5- أن لا يكون في اعتكافها تضييعاً لحق زوج أو رعاية ولد أو ضياعا لبيتها أو لحق والد أو والده .
6- أن يكون في المساجد ، فلا يصح الاعتكاف في البيوت .
والله تعالى أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم