شرح كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة
شرح كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة
من صحيح الإمام البخاري
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمـــة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن أصدقَ الحديث كتاب الله تعالى ، وأحسنَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرَ الأمور محدثاتها ، وكل محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد :
فلا يخفى على الجميع ما منَّ الله سبحانه وتعالى به على هذه الأمة المباركة من اليقظة والصحوة بعد الغفلة ، والتوجه نحو دين الله سبحانه وتعالى من الذكور والإناث ، وهي يقظة شاملة – بحمد الله سبحانه وفضله – كل البلاد العربية والإسلامية على اختلافها وتباعدها ، وتنوع أجناسها ولغاتها.
ولاشك أن هذه اليقظة والرجوع إلى الدين، تحتاج إلى الضوابط والقواعد الشرعية، التي تجعل من هذا الرجوع ، ومن هذه اليقظة : يقظة صحيحة أولاً ، ونافعة ثانيا ، ومباركة ثالثا ، ومؤيدة بنصر الله سبحانه وتعالى رابعا ، وإذا فقدت الصحوة أو فقدت اليقظة الإسلامية بتعبير أصح وأدق ، الضوابط التي تضبط لها منهجها وطريقها ورجوعها إلى الله سبحانه وتعالى ؛ فإنها ستخسر جهدها ووقتها ، وتخسر أبناءها ، وتضيع سُدى .
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار ، كتاب : ” الاعتصام بالكتاب والسنة ” من صحيح الإمام البخاري .
ومن خلال شرحنا لهذا الكتاب (1) ، الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن
ينفعنا به جميعا، سنتعرف على كثير من الضوابط التي تضبط لنا رجوعنا إلى الله تعالى ، وتضبط لنا منهجنا ، وتبين لنا الطريق الذي يجب أن يسلكه المسلم عموما ، والداعية خصوصا في رجوعه إلى الله تعالى ، وفي سعيه لإرجاع أمته إلى الله سبحانه وتعالى وإلى دينها الحق ، والله سبحانه وتعالى ، إنما كتب التأييد والنصر لعباده المؤمنين العالمين العاملين ، وأما دون ذلك فلا يكون الإنسان مؤيدا من عند الله عز وجل ، وإن تحقق على يده بعض النصر المؤقت أو بعض المصالح ، فإن مجرد وجود المنفعة والمصلحة ، لا يجعل الأمر مشروعا أو جائزا، كما هو معلوم .
شرح كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة
من صحيح الإمام البخاري
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمـــة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن أصدقَ الحديث كتاب الله تعالى ، وأحسنَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرَ الأمور محدثاتها ، وكل محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد :
فلا يخفى على الجميع ما منَّ الله سبحانه وتعالى به على هذه الأمة المباركة من اليقظة والصحوة بعد الغفلة ، والتوجه نحو دين الله سبحانه وتعالى من الذكور والإناث ، وهي يقظة شاملة – بحمد الله سبحانه وفضله – كل البلاد العربية والإسلامية على اختلافها وتباعدها ، وتنوع أجناسها ولغاتها.
ولاشك أن هذه اليقظة والرجوع إلى الدين، تحتاج إلى الضوابط والقواعد الشرعية، التي تجعل من هذا الرجوع ، ومن هذه اليقظة : يقظة صحيحة أولاً ، ونافعة ثانيا ، ومباركة ثالثا ، ومؤيدة بنصر الله سبحانه وتعالى رابعا ، وإذا فقدت الصحوة أو فقدت اليقظة الإسلامية بتعبير أصح وأدق ، الضوابط التي تضبط لها منهجها وطريقها ورجوعها إلى الله سبحانه وتعالى ؛ فإنها ستخسر جهدها ووقتها ، وتخسر أبناءها ، وتضيع سُدى .
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار ، كتاب : ” الاعتصام بالكتاب والسنة ” من صحيح الإمام البخاري .
ومن خلال شرحنا لهذا الكتاب (1) ، الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن
ينفعنا به جميعا، سنتعرف على كثير من الضوابط التي تضبط لنا رجوعنا إلى الله تعالى ، وتضبط لنا منهجنا ، وتبين لنا الطريق الذي يجب أن يسلكه المسلم عموما ، والداعية خصوصا في رجوعه إلى الله تعالى ، وفي سعيه لإرجاع أمته إلى الله سبحانه وتعالى وإلى دينها الحق ، والله سبحانه وتعالى ، إنما كتب التأييد والنصر لعباده المؤمنين العالمين العاملين ، وأما دون ذلك فلا يكون الإنسان مؤيدا من عند الله عز وجل ، وإن تحقق على يده بعض النصر المؤقت أو بعض المصالح ، فإن مجرد وجود المنفعة والمصلحة ، لا يجعل الأمر مشروعا أو جائزا، كما هو معلوم .
وقد اخترنا لبيان تلك الضوابط المهمة كتاب : ” الاعتصام بالكتاب والسنة ” من صحيح الإمام البخاري ، محمد بن إسماعيل ، أمير المؤمنين في الحديث .
وهو الإمام الحافظ – بل جبل الحفظ – كما يصفه الحافظ ابن حجر في التقريب ، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري ، الذي وفقّه الله عز وجل وأعانه ، لجمع أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل ، وهو ” صحيح البخاري ” المعروف باسمه ، فذكر فيه أصحّ ما ثبت لديه من الأحاديث النبوية ، والسنن المحمدية ، ومعها فقهه الواسع ، وعلمه الغزير ، المستنبط من الأحاديث ، والذي بثه في تراجمها ، كما هو معلوم من طريقته في كتابه عند أهل الحديث .
وهذا الكتاب – أعني صحيح البخاري- قد تصدى لشرحه كثير من الأئمة والحفاظ ، من أشهرهم وأوسعهم كتابا : فتح الباري للإمام الحافظ أحمد بن على بن حجر العسقلاني ، الذي يوصف بأنه خاتمة الحفاظ ، وهو صاحب الشرح المشهور: بفتح الباري ، حتى قال الإمام الشوكاني في مدح كتابة : ” لا هجرة بعد الفتح ” لعظمة هذا الكتاب وسعته وبيانه ، وسماه بعض المعاصرين : بقاموس السنة ، لما فيه من جمع للأحاديث النبوية واستقصاء طرقها وأسانيدها ؛ فإن الإمام الحافظ ابن حجر شرح هذا الكتاب في ستة عشر سنة ، وحشد فيه الطرق والأحاديث من السنن والمسانيد والمعاجم والأجزاء الحديثية وغيرها ، بما لا تجد له مثيلاً .
______________
1 – وقد تم شرح هذا الكتاب : في الدورة العلمية التي أقيمت بجمعية إحياء التراث الإسلامي ، فرع ضاحية صباح الناصر عام 1427 هـ .
وقد اختصر كتاب الحافظ ابن حجر ( الفتح ) حافظ الهند وعلامته : الشيخ صديق حسن خان رحمه الله ، وذلك في كتابه “عون الباري” وهو في خمسة مجلدات كبار.
وسنشرع ببيانها بحول الله تعالى .
والله تعالى أعلى وأعلم ، ومنه نستمد العون في القول والعمل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والحمد لله رب العالمين .
***************
بسـم اللـه الرّحمـن الرّحـيم
كتابُ الاعتصامِ بالكتاب والسّنة
بدأ الإمام البخاري رحمه الله كتاب ” الاعتصام بالكتاب والسنة ” من صحيحه بخمسة أحاديث ، ومن عادته أن يكتب البسملة في أول الكتاب ، فإن كتابه مقسم على كتب ، والكتب مقسمة على أبواب ، والبسملة – كما هو معلوم – يُؤتى بها تبركاً وتيمنا ، وتشبها بكتاب الله سبحانه وتعالى ، الذي يبدأ فيه القارئ بالبسملة .
والاعتصام : طلب العصمة ، وهي مأخوذة من قول الله سبحانه وتعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ) (آل عمران: 103) الآية ، فقال أهل العلم : إن الإمام البخاري قد انتزع هذه التسمية في هذا الكتاب ، من الآية الكريمة .
والمراد بالحبل : الكتاب والسنة على سبيل الاستعارة .
والكتاب : هو القرآن ، هذا هو العرف الشرعي له ، وهو المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام ، والمتعبد بتلاوته ، والمتحدى به الإنس والجن .
والسنة في اللغة : هي الطريقة والهدي .
وأما في الشرع فهي : ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلْقية أو خُلقية ، هذا عند الأصوليين والمحدثين.
وأما عند الفقهاء ؛ فإنهم يريدون بالسنة ما ُيرادف كلمة المستحب والمندوب ، فيقولون : هذا العمل سنة ، وهذا واجب .
والاعتصام بالكتاب والسنة يعني: الالتجاء إليهما ؛ والتمسك بهما ، لأن الله سبحانه وتعالى قد عصم كتابه عن الخطأ والزلل ، كما قال الله سبحانه وتعالى عنه : ( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) (فصلت : 42) .
قال الإمام ابن بطال – وهو من فقهاء المالكية – : ” لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو في سنة رسول الله ، أو في إجماع العلماء على معنى أحدهما “.
يعني : لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فالكتاب معصوم عن الخطأ والزلل ، والنقص والتبديل ، والسنة كذلك معصومة ؛ لأنها وحيٌ من عند الله كالقرآن ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يتكلم من عند نفسه ، بل هو كما قال الله عز وجل مزكياً منطقه الشريف : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (النجم : 4-3).
وقوله : ” أو في إجماع العلماء على معنى أحدهما ” أي : إذا أجمع العلماء وأولهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى آية ، أو على معنى حديث ، فإن هذا الإجماع معصوم عن الزلل والخطأ ، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام : ” إن الله لا يَجمع أمتي على ضلالة “.
وفي لفظ : ” أبى الله أن يَجمع الأمة على ضلالة “. رواهما الترمذي وابن أبي عاصم في السنة والطبراني وغيرهم ، من عدة طرق يقوي بعضها بعضا.
وبهذا نعلم أن الأمة ليست بحاجة إلى أفراد معصومين! كما ادّعت الإمامية في أئمتها أنهم معصومون عن الخطأ ! وأنه لا يصح أن يكون الإمام العام إلا معصوماً ! ولا يكون القائد إلا معصوما!!
فالأمة لا تحتاج إلى إمام معصوم ؛ لأن عندها كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهما محفوظان ومعصومان عن الخطأ ، وبهما يُعرف الخطأ من الصواب ، وهما الميزان اللذان توزن بهما الأعمال والأحوال ، والرجال والطوائف ، فإذا أردت أن تعرف : هل هذا العمل صحيح أو خطأ ؟ حق أو باطل ؟ فاعرضه على الكتاب أو على السنة أو على عمل السلف على معنى آية أو حديث ، تعرف حاله .
وقول الله سبحانه وتعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ ) (آل عمران: 103) جاء بعد قول الله سبحانه وتعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) ( آل عمران 102 – 103 ) فالله تعالى قد أمر بالتقوى – حق التقوى – في الآية التي قبلها ، وهي كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : أن ُيطاع فلا يُعصى ، وأن يُذكر فلا ينسى ، وأن يُشكر فلا يكفر.
ثم بيّن الطريق إلى التقوى فقال : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) (آل عمران: 103) إذاً متى أردنا أن نتقي الله عز وجل حق التقوى ؛ فعلينا أن نعتصم بحبل الله سبحانه ، وحبل الله ، قال المفسرون هو : كتاب الله ، وقال آخرون: هو الإسلام ، ولا تضاد بين المعنيين ؛ لأن الإسلام كتابه القرآن والسنة .
وتأمل كيف أن الله سبحانه وتعالى سمى كتابه ” حبلا ” لأن الحبل في الأصل ما يصل بين الشيئين ، فكتاب الله عز وجل واصل بين الله وبين عباده ، والحبل كذلك ما يصل به الإنسان إلى الأماكن العالية ، فإذا أراد أن يرتقي أخذ بالحبل وصعد ، فمن أخذ بالقرآن ارتفعت منزلته ، وعلا قدره عند الخلق ، وحصلت له الرفعة في الدنيا والآخرة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ” إنّ الله يَرفع بهذا الكتاب أقواماً ، ويضعُ به آخرين ” رواه مسلم .
وأيضا الحبل يحصل به النجاة ، فإذا سقط إنسان في حفرة ، أو في بئر ، دلينا له بحبل فأنقذناه به من الهلكة ، فكذلك الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة من الهلكة ، وهذه استعارة بديعة كما قال العلماء ، تدل على هذه المعاني العظيمة الجليلة .
وأورد بعد ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى في الباب الأول خمسة أحاديث ، نبدأ بأولها إن شاء الله تعالى .
*****************
– الحديث الأول في هذا الكتاب :
قال البخاري رحمه الله تعالى :
7268- حدثنا الحميدي : حدثنا سفيان عن مسعر وغيره عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين ، لو أنّ علينا نزلت هذه الآية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (المائدة : 3) لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، فقال عمر : إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية ، نزلت يوم عرفة ، في يوم جمعة “. سمع سفيان من مسعر ، ومسعرٌ قيسا ، وقيسٌ طارقا . ( طرفه في 45) .
الشرح:
الحديث الأول : رواه البخاري عن شيخه الحميدي ، وهو عبد الله بن الزبير الحميدي . عن سفيان وهو ابن عيينة الهلالي . عن مسعر وهو ابن كدام الهلالي . عن قيس وهو ابن مسلم الكوفي . عن طارق ابن شهاب البجلي وهو صحابي على الصحيح . قال: ” قال رجل من اليهود لعمر ” جاء في رواية البخاري في كتاب الإيمان أنه : ” قالت اليهود ” وفي رواية للإمام الطبري والطبراني أن القائل هو: كعب الأحبار ، ولعل اليهود كلفوه بأن يسأل عمر .
” قال رجل من اليهود لعمر رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين ، لو أن علينا نزلت هذه الآية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة: 3) لاتخذنا ذلك اليوم عيدا “.
فقوله ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ( المائدة : 3) ظاهر هذه الآية يدل على أن الدين كملت أحكامه وتشريعاته ، وحلاله وحرامه عند نزول هذه الآية ، وهذه الآية – كما قال أهل العلم – نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثمانين يوما ، وقد جزم السدي بأنه لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ، قال الحافظ : وفي ذلك نظر ! وقال : قد ذهب جماعة إلى أن المراد بالإكمال : إكمال أصول الأركان ، لا ما يتفرع عنها .
يعني : قد أكمل الله عز وجل لهذه الأمة أركان دينها ومعالم شريعتها بهذه الآية ، أما الفروع التي هي دون الأصول والأركان ، فيمكن أن تزاد ، وعلى كل حال فإن الجميع مجمعون على اكتمال الدين قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت إلا بعد أن أكمل للأمة دينها ، ووضح لها معالم شرعها ، ولم يكتم صلى الله عليه وسلم من ذلك شيئا كما أمره الله عز وجل : ( يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ( المائدة : 67) .
فلم يكتم عليه الصلاة والسلام شيئا من الوحي ، بل بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، حتى أتاه اليقين من ربه ، فصلوات الله وسلامه عليه .
والرسول صلى الله عليه وسلم قد أنزل الله إليه القرآن ليبين للناس ، كما قال: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) (النحل : 44) فربما وضّح إليهم ما كان مجملا في كتاب الله ، وفسّر لهم ما كان غامضا في وقته عليه الصلاة والسلام ، وبعده عليه الصلاة والسلام يُرجع في تفسير هذه المجملات إلى العلماء ؛ كما قال الله تعالى: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (النساء : 83 ).
فقائل هذه الكلمة يعلم قيمة هذه الآية ، ولهذا قال : ” لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ” أي : نفرح فيه بإكمال الدين وإتمامه .
والعيد : مأخوذ من العود ، وهو ما يعود في كل عام أو في كل زمان ، فسمي العيد عيدا من العود ، والعيد كما قال أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه : ” اقتضاء الصراط المستقيم ” : العيد شريعة ، ولا شريعة إلا ما شرعها الله “.
وبهذا نعلم أن التوسع في إحداث الأعياد مخالف الشرع ، والرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى المدينة ، كان للناس يومان يلعبون فيهما ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : ” إنّ الله أبدلكم بهما خيرا منهما ، يومي الفطر والأضحى”.
فألغى النبي صلى الله عليه وسلم ونسخ أعياد الجاهلية ، وأثبت أعياد الإسلام ، فاليومان اللذان كانا يلعبون فيهما نُسخا وألغيا ، وأُثبت مكانهما يوما الفطر والأضحى.
وهناك عيد ثالث وهو يوم الجمعة المتكرر ، فإن يوم الجمعة أفضل الأيام عند الله عز وجل ؛ كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة ؛ ولذلك اعتبره العلماء من الأعياد الأسبوعية المتكررة ، ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه المسلم بالاغتسال في هذا اليوم العظيم ، والتطيب والسواك ، ولبس النظيف من الملابس ، هذا كله يدل على أنه عيد في كل أسبوع للمسلمين .
والآية السابقة نزلت في يوم جمعة ، كما قال عمر رضي الله عنه : ” إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية ، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة “.
وفي رواية قال : ” إني لأعلم أين نزلت هذه الآية ، ومتى نزلت ، أو حين نزلت ” . أي : أعلم الزمان والمكان .
وفي رواية عند مسدّد : ” نزلت يوم جمعة ، يوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله عيد ” فهذه الآية قد نزلت يوم عيد للمسلمين ، وذلك لأنها نزلت يوم جمعة ، ويوم الجمعة هو عيد للمسلمين كما سبق ، كما أنها في الزمان يوم عرفة ، وعرفة ليلة العيد ويصح أن يقال : عرفة عيد .
فهذه الآية إذاً وافق نزولها يوم عيد للمسلمين ، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة ، أن الله تبارك وتعالى أنزل عليها هذه الآية في يوم عرفة ووافق الجمعة ، فاجتمع فيه فضلان : فضل عرفة الذي صيامه يكفّر سنتين : ماضية ومستقبلة ، ويوم جمعة الذي هو سيد الأيام ، وأفضلها عند الله تبارك وتعالى .
ويشيع عند العامة حديث : أن يوم عرفة إذا وافق الجمعة كان عن سبعين حجة! وهذا حديث ذكره رزين في زياداته على الموطأ ، ولا أصل له في كتب السنة ، ولا يعرف مخرجه ولا صحابيه ، كما قال الحفاظ ، كالحافظ ابن حجر وغيره .
ولكن لا شك أن يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة كان فضلا على فضل ، وربما يقال ” سبعون ” من باب المبالغة ؛ كما قال الله وتعالى: ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) (التوبة : 80) على وجه المبالغة ، أما أن من حج ووافق الجمعة عرفة ، يكون ذلك عن سبعين حجة في الأجر المعدود ، فلا يثبت هذا ، لكن لا شك أنه أفضل من غيره من الحجج .
وقول البخاري رحمه الله : ” سمع سفيان مسعر ومسعر قيسا وقيسا طارقا ” هذا من باب إثبات السماع للرواة ، وأن هذا الحديث متصل بالسماع ، سفيان وهو ابن عيينة سمع من مسعر، ومسعر سمع من قيس ، وقيس سمع من طارق بن شهاب .
– الحديث الثاني :
7269- حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب : أخبرني أنس بن مالك : أنه سمع عمر ، الغد حين بايع المسلمون أبا بكر ، واستوى على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد قبل أبي بكر فقال: أما بعد ، فاختار الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم ، فخذوا به تهتدوا ، وإنما هدى الله به رسوله ” ( طرفه في : 7219) .
الشرح:
الحديث رواه البخاري عن شيخه يحيى بن بكير ، وهو ابن عبدالله القرشي المصري الحافظ ، عن الليث وهو ابن سعد الفهمي قاضي مصر في وقته ومحدثها وعالمها ، وله مذهب لكنه انقرض تقريبا إلا ما في الكتب ، حتى قال بعض أهل العلم : إن الليث أعلم من مالك ، ولكن مالك قام به أصحابه والليث لم يقوموا به . وعقيل الذي يروي عنه هو ابن خالد الأيلي ، ثقة ثبت ، وعامة رجال الحديث الذين بهذا الاسم بفتح العين ” عَقيل ” إلا الراوي عن الزهري فإنه بالضم ” عُقيل “. عن ابن شهاب وهو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري الإمام التابعي الجليل ، وهو- فيما ذكر أهل العلم – أول من دوّن السنة النبوية بأمر من عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه ، وعيب عليه دخوله على السلاطين ، ولكنه كان قوّالا بالحق ، يدخل عليهم فيعظهم ويذكرهم بالله ، وهذا أمر مشروع ومطلوب ، ولم يكن ممن يدخل عليهم لأجل الدنيا .
قال: أخبرني أنس بن مالك، وهو الصحابي الجليل خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فوق الألف من الأحاديث ، والذين رووا فوق الألف من الحديث عن النبي [ سبعة من الصحابة، منهم أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
قوله: ” أنه سمع عمر الغد حين بايع المسلمون أبا بكر واستوى على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تشهّد قبل أبي بكر فقال أما بعد : فاختار الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الكتاب الذي هدي الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا ، وإنما هدى الله به رسوله ” وفي بعض النسخ” لما هدى الله به رسوله “.
فأنس بن مالك رضي الله عنه يروي هنا قصة مبايعة المسلمين لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان خليفته في صلاته ، فأم المسلمين في حياته صلى الله عليه وسلم بأمره، وقد رضيه الصحابة – رضي الله عنهم وأرضاهم لدنياهم إذ رضيه رسول الله [ لدينهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم رضي أبا بكر لدين المسلمين ، فقال : “مروا أبا بكر فليصل بالناس” رواه البخاري ؛ ولذا رضيه المسلمون والصحابة لإدارة شؤون دنياهم.
وقد قال السلف رحمهم الله : من قدّم عليا على أبي بكر، فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يعني: قد طعن في اختيار المهاجرين والأنصار، وانتقصهم واحتقرهم ؛ لأن المهاجرين والأنصار هم الذين اختاروا أبا بكر ، فمن قدّم عليا على أبي بكر ، أو قدم عثمان على أبي بكر ، أو قدم عمر على أبي بكر ، فقد أزرى واستخف بعقول المهاجرين والأنصار – والعياذ بالله – وهذا لا يرضاه مسلم لنفسه ؛ لأن الله سبحانه قد أثنى على الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وأخبر أنه تعالى رضي عنهم ، وعمن تبعهم بإحسان ، ورضوا عنه .
فمن تبع المهاجرين والأنصار فقد رضي الله عنه ، ومن لم يتبعهم فقد سخط الله عز وجل عليه ، لا شك في هذا ، وهذه قاعدة مهمة في اتباع سلف الأمة.
قوله: ” فلما بايع المسلمون أبا بكر واستوى على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد قبل أبي بكر ، تشهد عمر وخطب قبل أن يخطب أبو بكر فقال عمر رضي الله عنه في خطبته : ” أما بعد: فاختار الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الذي عنده على الذي عندكم ” يعني : أن الله عز وجل قد قبض نبيكم ، واختار له ما عنده جلّ وعلا في الرفيق الأعلى ، على الذي عندكم في الحياة الدنيا.
قوله ” وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا ، وإنما هدى الله به رسوله ” أو ” فخذوا به تهتدوا لما هدى الله به رسوله ” وهذا تقرير من عمر رضي الله عنه وأرضاه أن موت النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مصيبة عظيمة حلّت بالمسلمين ، إلا أن الله تبارك وتعالى قد أبقى في أمته الكتاب العظيم الذي اهتدى به نبيها عليه الصلاة والسلام ، فنحن وإن فقدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا ، لكن كتابه لا يزال موجوداً بيننا ، وسنته عليه الصلاة والسلام لا تزال محفوظة ، بل هما جميعا محفوظان إلى قيام الساعة ؛ فلا يضر الإنسان موت النبي صلى الله عليه وسلم الضرر البالغ الذي يؤدي به إلى الضلال ؛ لأن الكتاب محفوظ والسنة محفوظة ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : ( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ) (الأعراف : 3)، وقال تعالى: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) ( النساء : 80 ) ، ( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (الحشر: 7) فكتاب الله سبحانه وتعالى الاعتصام به فلاح ونجاة .
وهذا حثٌ من عمر على الاعتصام بالكتاب ؛ لأنه يقول لهم : إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات ، ولكن الكتاب الذي هدى الله به رسوله بين أظهركم ؛ فلا تخافوا من الضلالة ، والله سبحانه وتعالى قد اختار لرسوله ما عنده على الذي عندكم ، وهو سبحانه رؤوف رحيم بكم أيضا ؛ لأنه لم يرفع الكتاب من بين أظهركم بعد وفاة نبيكم ، بل هو لا يزال بين أظهركم تستطيعون الاهتداء به ، وإذا أردتم الهداية لما هدى الله به رسوله .
هذا ملخص كلام عمر رضي الله عنه ، وهي كلمات قليلة ، لكنها وصية عظيمة بكتاب الله سبحانه وتعالى ، والاعتصام به ، وأن التمسك به سبب يحصل به المقصود من الهداية ، والعصمة من الزيغ والضلال .
نسأله تعالى أن يعلمنا من كتابه ما جهلنا ، ويذكرنا منه ما نسينا ، ويرزقنا تلاوته على الوجه الذي يرضيه عنا ، إنه سميع الدعاء