منافع السفر
إن للسفر منافع وفوائد كثيرة ، كما له أيضاً عيوبا وأضرارا ، أما الفوائد والمنافع فنقول وبالله التوفيق :
إن مما يُسْتَشهدُ به دائماً عند ذكر فوائد السفر ومحاسنه ، أبيات للإمام الشافعي رحمه الله تعالى – قال فيها :
تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العلى وسافرْ ففي الأسفار خمسُ فوائد
تَفَــرُّج هـمٍّ واكتساب مــعيشـة وعلـم وآداب وصحبة ماجـد
فإنْ قـيل في الأسفار ذُلٌّ ومحنـة وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فـموت الـفتى خيرٌ له من قيامـه بدار هـوانٍ بين واشٍ وحـاسد
هذه هي الفوائد التي ذكرها الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – ونبين ما جاء فيها بشيء من التفصيل :
أولا – انفراج الهم والغم : فمما عرف واشتهر بين الناس أن الملازم للمكان الواحد ، أو المسكن الواحد ، أو حتى الطعام الواحد ، يصاب بالسآمة والملل منه ، ويعتريه ما يُضيّقُ به صدره ويغتم ، ويحس بالرتابة في حياته ، وتنتابه الرغبة في التجديد والتغيير ، فإذا سافر الواحد منهم ، وتغيّرت الوجوه من حوله ، واختلفت المشاهد والأجواء عليه ، فحينئذ يذهب همه ، وينشرح صدره ، ويعود لعمله ومسكنه بهمة ونشاط .
وورد عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال : سافروا تصحوا .
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح .
وهذا ما ينصح به الأطباء النفسيون أيضا ، فمن أصابه همّ أو غمّ أو مشكلة ، ينصحونه بأن يسافر ليرتاح ويغير الجو ويستجم .
ثانيا – اكتساب المعيشة : فإنّ من ضاق عليه رزقه في بلده ، ربما نُصح بالسفر إلى بلاد أخرى طلباً للرزق ، وسعياً في كسب المعاش ، فالله سبحانه وتعالى يقول: ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا منْ رزقه وإليه النّشور ) تبارك : 15 .
أي : سخّر لكم الأرض لتسيروا في طرقها ، ولتنالوا منها كل ما تحتاجون من غرس وزرع وبناء وتجارة وصناعة .
وكم من رجل سافر لاكتساب الرزق ففتح الله عليه .
ومما قيل : صعود الآكام ، وهبوط الغيطان ، خيرٌ من القعود بين الحيطان
ثالثا – تحصيل العلم : فقد كان سلفنا الصالح ، ومن قبلهم ممن نقتدي بهم من الأنبياء والصالحين ، يرتحلون في طلب العلم ، ويقطعون المسافات الطويلة أحياناً لأجل سماع حديث واحد عن رسول الله ، يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى : رحل جابر بن عبد الله ، مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنهما ، في حديث واحد .
وألّف الإمام الخطيب البغدادي كتابا سماه : ” الرحلة في طلب الحديث ” وهو مطبوع .
وقد قصّ الله تعالى علينا في كتابه العزيز، قصة سفر موسى صلى الله عليه وسلم للخضر عليه السلام في آيات من سورة الكهف ، ولما لقيه قال له في تواضعٍ جم : ( هل اتّبعك على أنْ تعلمن مما علمت ُرشدا ) الكهف : 61 .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ” .
رابعا– تحصيل الآداب : وذلك إذا سافر والتقى بالصالحين والزهاد والعلماء والأدباء الذين لا يلقاهم ببلده ، وما يُراه منهم من الأخلاق والآداب الحسنة ، والشمائل الفاضلة ، فيكتسب من أخلاقهم ويقتدي بهم ، فيحصل له من الأدب الشيء الكثير ، وتسمو طباعه .
قال تعالى لنبيه بعد أن ذكر جملة من الأنبياء ( أولئك الذينَ هدَى الله فَبهُداهم اقْتده ) الأنبياء .
وقال للمسلمين ( لقدْ كان لكم في رُسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمنْ كان يَرجو الله واليومَ الآخر وذكرَ الله كثيرا ) الأحزاب : 21 .
ومما قاله بعض السلف في أحد أئمة الحديث وهو حماد بن زيد رحمه الله :
أيهـا الطالب علماً إئت حماد بن زيد
فاكتسب حلماً وعلما ثم قيـّده بقـيد
خامسا – صحبة الأمجاد : وهو مما أوصى الله تعالى به في كتابه ، فقال ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وُكونوا مع الصّادقين ) التوبة : 119.
فالإيمان يقتضي أن يكون المؤمن مع المؤمنين الصادقين ، لا مع المنافقين الكاذبين المخادعين .
وقال سبحانه أيضا لنبيه عليه الصلاة والسلام ( واصْبر نفسَك مع الذين يَدعون ربّهم بالغَداة والعَشي يُريدون وجهه ولا تعدو عيناك عنهم تُريد الحياة الدنيا ولا تُطع من أغفلنا قلبه عنْ ذكرنا واتبعَ هواه وكان أمرُه فُرطا ) الكهف : 28 .
ويشهد لهذا الحسّ والواقع ، فكم من إنسان سافر فلاقى كرام الرجال وأطايبهم ، فخالطهم وعاش معهم ، فتغيرت أخلاقه ، وتبدل حاله ، وارتفعت همته ، مما لم يكتسبه لما كان في وطنه وبين أهله من العلم والآداب والسمت الحسن .
ويقول الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – أيضا :
سافرْ تجد عوضاً عمن تفارقه وانصبْ فإنّ لذيذَ العيش في النّصب
إني رأيتُ وقوف الماء يفسده إنْ ساحَ طاب وإنْ لم يجرِ لم يـطِبِ
ومن فوائد السفر أيضا :
سادسا – استجابة الدعاء : لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لا شَكَّ فِيهِنَّ : دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ ” .
فلذا ينبغي للمسافر الحرص على الإكثار من الدعاء بالمغفرة والرحمة له ولوالديه ولجميع المسلمين ، وأن يسأل الله عز وجل التسهيل والتوفيق لما فيه خير الدنيا والآخرة ، ويتخيّر من الأدعية النبوية الشريفة ما شاء .
سابعا – زيارة الأقارب وصلة الأرحام والإخوان في الله : وهذا من أفضل القربات إلى الله سبحانه وتعالى ، وأعلاه السفر للقيا الوالدين والإخوة والأخوات ، قال سبحانه ( واعبُدُوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى ) النساء : 26 .
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحبّ إلى الله عز وجل ؟ فقال : ” الصلاة على وقتها ” . قال : ثم أي ؟ قال : ” بر الوالدين ” قال : ثم أي ؟ قال : ” الجهاد في سبيل الله ” رواه البخاري ( 5970 ) وغيره .
وكذا السفر للقاء الأحباب في الله ، والتزاور مع المسلمين .
ويشهد لذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَه عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا ، فَلَمَّا أَتَى علَيهِ قَال َ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ . قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيه مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ: لا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عز وجل . قَالَ : فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ ” رواه مسلم .
ثامنا – دفع الإنسان الذل عن نفسه : فإنه إذا كان بين قوم لئام ظلمة ، يظلم فيها ويهان ، لأنه قد يكون مثلاً : صاحب دين وعلم ، وهم أهل فسق وفجور ، أو غير ذلك فيكرهون مقامه بين أظهرهم ، وقد يستخفون به ، كما قال قوم لوط لنبيهم وأهله ( أَخرجوا آل لوطٍ من قريتكم إنهم أناسٌ يتطهرون ؟ )
فإذا فارقهم إلى بلد أخرى ، فيها أهل الدين والعلم ، أو صار بين من يُحبه ويعرف منزلته ، صار في عزٍّ وارتفع شأنه ، وزال عنه ما كان يضره ، ما لم يكن في بقائه ببلده مصلحة للدعوة إلى الله تعالى ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيبقى لأجل ذلك .
ويشهد لهذا : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة ، مكرها بعد أن خطط المشركون لسجنه وحبسه أو قتله ، ومنعه من تبلغ دعوته ، فهاجر منها وهي أحب البقاع إليه ، وتحول إلى طيبة الطيبة ، والمدينة المباركة ، فكان من أمره ما كان ، من العز والقوة والتمكين في الأرض ، ثم عاد إليها عزيزاً فاتحاً منصورا .
ويقول عن هذا العلامة بدر الدين الزركشي رحمه الله تعالى : يستنبط منه مشروعية الانتقال من مكان الضرر .
يقول الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى –:
ارحلْ بنفسك من أرض تُضام بها ولا تكنْ من فراق الأهل في حُرق
مـنْ ذلّ بيـن أهاليه بـبلدتـه فـالاغتراب له من أحسن الخلق
فالعنبـر الخـام روثٌ في مواطنه وفي التـغرب محمولٌ على العنق
والكحل نوعٌ من الأحجار تنظره في أرضه وهو مرميٌّ على الطرق
لما تغرّب حـاز الفضل أجـمعه فصار ُيحمل بين الجفـن والحَدق
هذا ما تيسر كتابته ، وأسأل الله تعالى لنا ولجميع إخواننا صلاح الدين والدنيا ، والحفظ في الحل والترحال .
وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم