ماذا بعد الحج ؟
في الأيامِ القليلةِ الماضيةِ قضى الحجاجُ عبادةً من أعظم العبادات ، وقربةً من أعظم القربات ، وركناً من أركان الإسلام الخمسة ، فتشرفوا بالطوافِ بالبيت العتيق ، والسعيِ بين الصفا والمروة ، والوقوف بعرفات ، ثم بعد ذلك إلى رمي الجمرات ، وبقية مناسك الحج المبارك ، في رحلةٍ من أروع الرَحلات ، وسياحةٍ من أجمل السياحات .
وها قد عادوا إلى أوطانهم ، ورجعوا إلى أهليهم ، وباشروا أعمالهم .
فإلي كل مَنْ تشرف بحجَّ البيت العتيق ، إليك هذه الوقفات من قلبٍ محبّ لك ، وناصح مشفق عليك :
الوقفة الأولى : يا من حج بيت الله الحرام ، أشكر الله عز وجل على ما أولاك ، واحمده على ما حباك وأعطاك ، من نعمه وبِرّه ، وخيره وعطائه وإحساته ، فهو سبحانه مصدر النعم كلها ، قال تعالى ( وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) النحل .
وقال ( وَإِنْ تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) النحل .
وينبغي للحجاج أن يفرحوا بما آتاهم الله من فضله ، ووفقهم لطاعته وعبادته ، وحُق لهم ذلك ، فهو الفرح الحقيقي الدائم ، كما قال ربنا سبجانه ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ ) يونس .
الوقفة الثانية : ظُن بربك الظن الحسن الجميل ، وأمِّل به الخيرٍ الجزيل ، وقوّي رجاءك بالله تعالى ، في قبولِ حجِك وطاعتك ، ومحْوِ ما سلف من ذنوبك وسيئاتك ، فقد جاء في الحديث القدسي : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” قال الله تعالى : أنا عند ظنِّ عبدي بي ” أخرجه الشيخان .
وقال صلى الله عليه وسلم : ” مَنْ حجَّ البيتَ فلم يرفث ولم يَفْسق ، رجعَ من ذنوبه كيومِ ولدته أمه ” متفق عليه .
عن عائشة رضي الله عنها زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم قالت : سألت رسول الله عن هذه الآية ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) فقلت : أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ فقال : ” لا يا بنت الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ، وهم يخافون أنْ لا تُقبل منهم ( أُوْلَـئِكَ يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَـابِقُونَ ) ” . أخرجه الترمذي .
الوقفة الثالثة : يا من حجَّ البيت العتيق ، وتشرف بزيارة البلد الحرام ، ولبيت ربك وأجبته ، مرةً بعد مرة ، في هذه المناسك المباركة ، ها أنت الآن وقد كَمُلَ حجك ، وتمَّ تفثُك ، بعد أنْ وقفت على هاتيك المشاعر ، وأديت تلك الشعائر ، قد رجعت إلى ديارك سالما غانما ، فاحذر كل الحذر من العودة إلى فعل السيئات ، وارتكاب المحرمات ، فتهدم ما بنيت ، وتُبعثر ما جمعت ، وتنقض ما أحكمت ، قال سبحانه ناهياً ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـاثًا ) النحل .
فقد فتحت في حياتك صفحةً بيضاء نقية ، ولبستَ بعد حجك ثيابًا طاهرة نقية ، فحذار حذار من تسويد صحيفتك بالأفعال المحرمة ، والأقوال فما أحسن الحسنةِ تتبعها الحسنة ، وما أقبح السيئةِ بعد الحسنة .
الوقفة الرابعة : إنَّ للحج المبرور أمارة ، ولقبوله علامة ، سُئل الحسن البصري رحمه الله تعالى : ما الحجُ المبرور ؟ قال : أنْ تعودَ زاهدًا في الدنيا ، راغبًا في الآخرة .
وقال بعض السلف : إن من ثواب الحسنة ، الحسنة بعدها .
فما أجملَ أنْ يعود الحاج بعد الحج إلى أهله ووطنه ، وقد ازداد إيمانه ، واستقام حاله ، وحسن خُلُقِه ، وكمل وقارِه ، وزاد ورعه وتقواه ، فإن الحج بكل مناسكِه يُعرّفك بالله تعالى ، ويذكرك بحقوقه سبحانه ، وبخصائصِ ألوهيته جل في علاه ، وأنه لا يستحقُ العبادةَ سواه .
فمن يعودُ بعد الحج بهذه الصفات الجميلة ، والخلال الجليلة ، فهو حقًا من استفاد من الحجِ وأسراره ، ودروسه وآثاره .
أين أثرُ الحج فيمن عاد بعد حجَّه مُضيعًا للصلاة ؟! مانعًا للزكاة ؟ آكلاً للربا والرُشا ؟ عاقاً لوالديه ؟ قاطعًا للأرحام ؟ والغًا في الموبقات والآثام ؟!
فيا من امتنعتَ عن محظورات الإحرامِ أثناء حج بيت الله الحرام ، فاعلم أنَّ هناكَ محظوراتٌ على الدوام ، وطولَ الدهر والأعوام ، فاحذر إتيانها وقربانها ، قال تعالى ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ ) البقرة .
فليكن حجُك حاجزًا لك عن مواقعِ الهلكات ، ومانعًا لك من الموبقات المُتلفات ، وباعثًا لك إلى المزيد من الخيرات ، وفعلِ الصالحات ، واعلم أنَّ المؤمن ليس له منتهى من صالحِ العمل إلا حلولُ الأجل ، كما قال الله تعالى ( واعبد ربك حتى يأتيك اليفين ) الحجر .
الوقفة الخامسة : مناسك الحج كلها تذكرك بالتوحيد وإخلاص الدين لله تعالى ، من أول قولك : لبيك لا شريك لك ، ويذكرك بأنَّ الله تعالى هو الأحدُ الذي تُسلَم النفس إليه وحده لا شريك له ، ويوجَّه الوجه إليه ، وأنه الصمدُ الذي له وحده تَصْمُد الخلائق في طلب الحاجات ، وتفريج الكربات ، فكيف يهون عليك بعد ذلك أنْ تصرف حقًا من حقوق الله تعالى من الدعاء ، والاستعانةِ والاستغاثة ، والذبح والنذر إلى غيره ؟!
فأي حجٍّ لمن عاد بعد حجه يفعل شيئًا من ذلك الشركِ الصريح ؟! أي حجٍ لمن حج ثم يأتي السحرة والمشعوذين ، ويُصَدِّقُ أصحابَ الأبراج والتنجيمِ ، ويتبرك بالأشجار ، ويتمسح بالأحجار ، ويعلق التمائمَ والحروز ؟
وهكذا من لبى لله في الحج مستجيبًا لندائه ، كيف يلّبي بعد ذلك للدعوات أو المبادئ أو المذاهب الأرضية ، التي تناقض دين الله الحق ، الذي لا يُقبل من أحدٍ دينا سواه ؟ من لبّى لله في الحج كيف يَتحاكم بعد ذلك إلى غير شريعته ، أو ينقادَ لغير حُكمه ، أو يرضى بغير رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم ؟!
من لبى لله في الحج ، فليلبِّ له في كل مكان وزمان بالاستجابةِ لأمره ، لا يتردد في ذلك ولا يتخير ، ولا يتمَنَّعُ ولا يضجر ، وإنما يَذِّلُ ويخضع ، ويطيع ويسمع .
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال ، إنه سميع الدعاء .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين