المسح على الخفين
المسح على الخفين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه
أما بعد:
فإن المسح على الجوارب سنة نبويةٌ ثابتة ، وقد أمر به نبينا صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم .
فقد ورد في سنن أبي داود (146) وأحمد (5/277) وغيرهما , بسند صحيح ، وفي وشرح السنة للبغوي : من حديث ثوبان رضي الله عنه قال : “بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أنْ يمسحوا على العصائب والتساخين”.
وأيضا : فقد ثبتت السنة النبوية بالمسح على الخفين .
وقد ألحق بهما جمهور العلماء : الجوربين.
والجَورب كما قال الخليل الفراهيدي : هو لِفافةُ الرَّجلِ . ينظر : “العين” (6/113).
وفي “مواهب الجليل” (1/318) : ” الْجَوْرَبُ مَا كَانَ عَلَى شَكْلِ الْخُفِّ مِنْ كَتَّانٍ ، أَوْ قُطْنٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ” انتهى .
والفرق بين الجورب وبين الخف : أن الخف يكون مصنوعاً من الجلد ، أما الجورب فلا يكون من الجلد ، بل من الصوف أو الكتان ، أو القطن ، ونحو ذلك .
وفي وقتنا الحاضر يصنع الجورب أيضاً من النايلون .
وصح المسح على الجوربين عن الصحابة .
قال ابن المنذر : ” رُوِيَ إِباحَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْربينِ عن تِسْعَةٍ مِنْ أَصحابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : علِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وأَبِي مَسْعُودِ ، وَأَنَسِ بنِ مَالِكٍ ، وابنِ عُمَرَ ، والْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ ، وبِلَالٍ ، وأَبِي أُمَامَةَ ، وسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ “. انتهى من “الأوسط ” (1/462) .
قال ابن القيم : ” وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ : أبو أمامه ، وعمرو بن حريث ، وعمر ، وابن عَبَّاسٍ ، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة عَشَر صَحَابِيًّا .
وَالْعُمْدَة فِي الْجَوَاز عَلَى هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ ، لَا عَلَى حَدِيث أَبِي قَيْسٍ .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْح على الْجَوْربَيْنِ ، وعَلَّلَ رِوايَة أَبي قَيْسٍ .
وهذَا مِنْ إِنْصَافه وعَدْله رحِمه اللَّه ، وإِنَّمَا عُمْدَته هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة ، وصَرِيح الْقِيَاس ، فَإِنَّهُ لَا يظْهَر بين الجَوْربَينِ والْخُفَّيْنِ فَرْق مُؤَثِّر ؛ يَصِحّ أَنْ يُحَال الْحُكْم عَلَيْهِ “.
انتهى من “تهذيب السنن” (1/187).
وقال ابن قدامة : ” الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عنهم ، مَسَحُوا على الْجَوَارِبِ ، ولَم يَظْهَرْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهم ، فَكَانَ إجماعًا ” انتهى من “المغني” (1/215) .
وكذلك لا فرق بين الخف والجورب من حيث النظر .
قال شيخ الإسلام : ” فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ : إنَّمَا هو كَوْنُ هَذَا مِنْ صُوفٍ ، وَهَذَا مِنْ جُلُودٍ .
ومَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ ، فَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَكُونَ جُلُودًا ، أَوْ قُطْنًا ، أَوْ كَتَّانًا ، أَوْ صُوفًا .
كَمَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ سَوَادِ اللِّبَاسِ فِي الْإِحْرَامِ وَبَيَاضِهِ … وَغَايَتُهُ أَنَّ الْجِلْدَ أَبْقَى مِنْ الصُّوفِ: فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ ، كَمَا لَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِ الْجِلْدِ قَوِيًّا …
وَأَيْضًا : فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا ، كَالْحَاجَةِ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا سَوَاءٌ ، وَمَعَ التَّسَاوِي فِي الْحِكْمَةِ وَالْحَاجَةِ ، يَكُونُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ ، وَهَذَا خِلَافُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ ، الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ .
، وَمَنْ فَرَّقَ بِكَوْنِ هَذَا يَنْفُذُ الْمَاءُ مِنْهُ ، وَهَذَا لَا يَنْفُذُ مِنْهُ : فَقَدْ ذَكَرَ فَرْقًا طَرْدِيًّا عَدِيمَ التَّأْثِيرِ”. انتهى من “مجموع الفتاوى” (21/214).
وعامة من أجاز المسح على الجوربين من العلماء : اشترط للمسح عليهما أن يكونا ثخينين ، يمكن متابعة المشي فيهما ، ينظر: “المبسوط” (1/102) ، “المجموع” (1/483) ، “الإنصاف” (1/170) .
لأن حكم الجورب حكم الخف ، والخف لا يكون إلا صفيقاً ، ولا يمكن للجورب أن يُنَزَّل منزلة الخف ، إلاَّ إذا كان مثله .
قال الكاساني : ” فَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ يَشِفَّانِ الْماءَ ، فلا يَجوزُ الْمَسْحُ عَلَيهما بِالْإِجْمَاعِ “.
انتهى من “بدائع الصنائع” (1/10).
وقال ابن القطان الفاسي : ” وأجمع الجميع أن الجوربين إذا لم يكونا كثيفين : لم يجز المسح عليهم ” . انتهى من “الإقناع في مسائل الإجماع” ( المسألة : 351) .
وسئل شيخ الإسلام : هَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ كَالْخُفِّ أَمْ لَا ؟
فقال : ” نَعَمْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إذَا كَانَ يَمْشِي فِيهِمَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُجَلَّدَةً ، أَوْ لَمْ تَكُنْ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (21/213).
وقال : ” وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا … لَمْ يُمْسَحْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِي مِثْلِهِ لَا يُمْشَى فِيهِ عَادَةً ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْمَسْحِ عَلَيْهِ ” انتهى من “شرح عمدة الفقه” (1/251).
وفي “فتاوى اللجنة الدائمة” (5/267) : ” يجب أن يكون الجورب صفيقاً ، لا يَشِفُّ عما تحته”. انتهى
وقالوا : ” يجوز المسح على كل ما يستر الرجلين مما يلبس عليهما من الخفاف والجوارب الصفيقة ” . انتهى من ” فتاوى اللجنة الدائمة ” (4/101).
ويكون المسح بعد طهارة كاملة ، أي : وضوء تام أو غُسل ، وكيفيته : أنه إذا لبسهما بعد طهارة كاملة وأحدث ، وأراد أن يجدد الوضوء ؛ توضأ وضوءه للصلاة كما هو معلوم ، فإذا وصل إلى القدمين مسح على الجوربين .
ويمسح عليهما في كل وقت ، سواء كان الناقض هو النوم أو كان غيره من بقية نواقض الوضوء ، ما لم تصبه جنابة ، أو يمضي يوم وليلة إن كان مقيما، وثلاثة أيام إن كان مسافراً.
والله تعالى أعلم