الدروس والعِبر من أزمة المطر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام رسوله الأمين وبعد :
فما حدث من نزول المطر المنهمر المستمر ، وما نتج عنه من فيضان في الطرقات ، وغرق بعض المركبات ، وتعطل للسير ، ودخول للمياه في المنازل ، وتلف في بعض الممتلكات ، فيه دروسٌ وعبر ، لمن يعتبر من عباد الله الصالحين ، أولي الأبصار والألباب ، فمن ذلك :
1- أن الأمطار الغزيرة المتواصلة ؛ أظهرت لنا قوة الله عز وجل وقدرته ، وجبروته وسلطانه على من في السموات والرص ، وأنه قادر على كل شيء ، وظهر لنا ضعف الناس وعجزهم ، وفقرهم وحاجتهم إلى ربهم القوي القادر . وان مفاتيح الخير ومغالقه كلها بيده ؛ فما يفتح الله للناس من خير فلا مُغلق له ، ولا ممسك عنهم ، لأن ذلك أمره لا يستطيع ردَّ أمره أحد ، وكذلك ما يغلق من خير عنهم فلا يبسطه أحدٌ عليهم ولا يفتحه لهم ، بل لا فاتح له سواه ؛ لأن الأمور كلها إليه ، يقول تعالى ذكره : ( وله.مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فاطر : 2.
فإنزال المطر من أعظم الآيات الدالة على قدرته ، كما أنه من أعظم الآيات الدالة على رحمته .
والأصل العقدي الذي ينبغي التعاملُ من خلاله مع أحوال الطقس وتقلبات الطبيعة أو كوارثها هو مسألة : “التقدير الإلهي”.
وتلخيص المسألة : أن الله تعالى قدَّر مقادير الخَلق جميعاً على ذواتٍ وصفات ، وأوقات وأماكن ، وقدَّر الثابت والمتغير ، والأصل والفرع ، كل ذلك قبل خَلْق الخَلْق ؛ بعلمُه تعالى ، وهو علم إحاطة ؛ فإنه سبحانه يعلم ما كان ، وما يكون ، وما سيكون ، وما لا يكون لو كان كيف يكون .
الدليل على هذا : قوله تعالى ( وخَلَق كلَّ شيءٍ فقدّره تقديراً ) الفرقان : 2 . أي : هو سبحانه الذي خلق كل شيء في هذا الوجود خلقاً متقناً حكيماً ، بديعا في هيئته ، ومقدّراً في زمانه ، وفي مكانه ، وفي وظيفته ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته .
وقال تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) القمر .
وعلم الله تعالى شاملٌ لكل شيء ، في الأرض وفي السماء ، للكليات والجزئيات ، كما في قوله تعالى : ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ الأنعام : 59.
وقال سبحانه : ﴿ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ المزمل : 20 ، وذلك تقديرٌ في الزمان ، كما هو في الأحداث .
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” كَتَبَ اللهُ مقاديرَ الخلائق ؛ قبل أنْ يخلُقَ السمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة ، قال : وعرشُه على الماء “. مسلم (2653).
فمن هنا نعلم : أنه ما من شيء يحدث في الأرض ولا في السماء ، إلا وقد علِمه اللهُ ، وما من شيء علِمه إلا وقدَّره ، وما من شيء قدَّره إلا وهو يريدُه لحكمةٍ يعلمها سبحانه وتعالى ، والكوارث الطبيعية شيءٌ مما يحدث في الأرض .
وكل ما قدَّر اللهُ تعالى من الحوادث والمصائب ، إنما هو في الحقيقة رسائلُ إلهية توجِّه الناسَ للحق ، وتردُّهم إليه .
وقال تعالى : ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ الشورى: 30.
وقال تعالى : ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ العنكبوت: 40.
فصاعقةَ ثمود ، وإعصارَ عاد ، وخسف قُرى قوم لوط وقلبها ، وغرقَ فرعون ، وخسْفَ قارون .. وغيرهم كانت عقوبات إلهية ، وليست كوارث طبيعية كما يقوله من لا إيمان له ؟ ولا اعتقاد صحيح ؟!
ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخشى من هذه الأحوال الجوية السماوية وغيرها ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلةً في السماء ، أقبل وأدبر ، ودخل وخرج ، وتغيَّر وجهُه ، فإذا أمطرت السماءُ سُرِّي عنه ، فعرَّفته عائشة ذلك ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” ما أدْري ؟ لعله كما قال قوم : ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ﴾ الأحقاف: 24 . رواه البخاري ( 3206).
وقد أهلك الله عز وجل أمما سابقه ، هلاكاً مدمراً بالمطر والفيضانات ، كقوم نوح عليه السلام . قال تعالى عنهم : ( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) القمر .
أي : أمطرت السماء مطراً كثير ، لم تمطر قبل ذلك اليوم ولا بعده مثله ; وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم ، فالتقى الماءان على أمر قد قدره الله تعالى .
وقال ابن عباس : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر من غير سحاب ، لم يقلع أربعين يوما . ( القرطبي )
وكانوا يسخرون من نبيهم عليه السلام ، كما قال الله تعالى : ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) هود .
وقد وصف الله تعالى ، حال الأرض بعد هطول المطار العظيمة ، فقال : ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ) . فوصلت المياه إلى ارتقاع الجبال الشاهقة ؟!
وظن بعض الناس من قوم نوح عليه السلام ، أنه قادر على النجاة من عقاب الله ، ومدافعة أمر الله تعالى ، ومنهم أحد أبناء نوحٍ عليه السلام ، كما حكى الله تعالى عنه فقال : ( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى? جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) هود .
وبعد انتهاء ما قضى الله وقدّره ، وهلاك قوم نوح بما أهلكهم به من الغرق ، قال الله للأرض بعد ما تناهَى أمرُه : ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى? نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) هود .
2– أن المطر الغزير وما سببه من حوادث كثيرة ، وأضرار بالممتلكات والأرواح أحياناً ، استخرج من الناس عبوديات كثيرة ؛ كان الناس في غفلة عنها ؛ كعبودية الخوف من الله وعقوباته ، وهي من صفات المؤمنين الموحدين قال تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) الأنبياء : 49 ، فأخبر أنهم يخشون ربهم بالغيب ، وأنهم مشفقون من أهوال يوم القيامة ، والخشية : هي الخوف من الله ، وهي اضطراب القلب ووجله من تذكر الله وصفاته العظيمة ، وعقابه وناره ، ووعيده الشديد لمن عصاه .
والخوف من الله تعالى سراجٌ يضئ في القلب ، به يبصر المؤمن الخير من الشر ، لذا قال أحد الصالحين : ما فارق الخوفُ قلباً إلا خرب .
وقال آخر : إذا سكن الخوف القلب ؛ أحرقَ مواضع الشهوات منها ، وطرد الدنيا عنها .
والخوف والخشية من الله.. هي من أعلى المقامات وأشرفها .وأسمى الصفات وأرفعها ، بل هي صفةَ من صفات النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، قال سبحانه عن أنبيائه : ( الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ) الأحزاب : 39.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :” ما بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ ؟! فَوَ اللَّهِ ، إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً ” . متفق عليه .
وهي صفة من صفات العلماء ورثة الأنبياء ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) فاطر: 28.
بل هي صفةَ من صفات الملائكة المقرَّبين ، قال الله تعالى عنهم : ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) النحل :50.
والخوف خوفان : خوفٌ محمود ، وهو ما حجزك عن محارم الله . وخوف مذموم : وهو ما يُؤدي إلى اليأس والقنوط من رحمة الله .
* ومن العبوديات التي ظهرت حلال أزمة الأمطار : الاعتراف بالتقصير في طاعة الله تعالى ، والرجاء والطمع في مغفرته ورحمته ، فهذه الأزمة جعلت بعض الناس يُحاسبون أنفسهم ، ويعدّون ذنوبهم وسيئاتهم ، فيستغفرون الله ويرجعون إليه ، والخشية الحقة لله هي التي لا تفرق بين معصية كبيرة وصغيرة ، فلا ينظر إلى صغر المعصية ، ولكن ينظر إلى عظمة من عصاه .
* ومن العبوديات التي ظهرت : التضرع والدُّعاء والابتهال إلى الله عز وجل بكشف الضرّ ، والحفظ والسلامة في الأهل والولد والمال ، وصدق الالتجاء إليه سبحانه .
وقد أُمِرنا الله تعالى بالدعاء ، ووُعِدنا بالإجابة ؛ فقال في كتابه : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) غافر: 60.
وقال أيضا : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) البقرة : 186.
وقال تعالى : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) النمل : 62.
أي : من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ؟ والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه . ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) ، أي : خلفا بعد سلف (أإله مع الله ) يقدر على ذلك ( قليلا ما تذكرون ) .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” الدُّعاء هو العبادة ” . رواه أبو داود والترمذي .
يعني : أن الدعاء هو خالص العبادة وأصلها .
– وعَنْ أَبِي هُريرة قال : قال رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم : ” إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ ، يَغْضَبْ عَلَيْه “. رواه الترمذي (3373) وحسنه الألباني .
هذا الحديث يدل على أن دعاء الله وسؤاله واجب في الجملة ، بحيث إن من ترك دعاء الله بالكلية ، فإن الله يغضب عليه ، لأنه ترك هذه العبادة العظيمة التي هي الدعاء ، ولأن ذلك يشعر بتكبره وأنه مستغن عن الله غير محتاج إليه . والْغَضَب لَا يكون إِلَّا على ترك وَاجِب أَو فعل محرم .
وكذلك عبودية التوكل على الله ، وحُسن الظن به سبحانه وغيرها .
– وكذلك أزمة المطر بيّنت للناس بعض سُنن النبي صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم في الدعاء والصلاة كدعاء الاستصحاء .
* ومن الأمور التي ظهرت خلال أزمة المطر : تلاحم أهل الكويت ، وتعاونهم وتكاتفهم ، وحبهم الصادق لولاة أمورهم ولدولتهم الحبيبة الكويت ، ولا سيما رجال الداخلية والدفاع والحرس الوطني والإطفاء والأشغال والكهرباء والماء وغيرهم فقد ضحوا بأنفسهم وراحتهم من أجل إنقاذ هذا البلد الطيب وأهله .
حفظ الله الكويت وشعبها وولاة أمورها وحكومتها من كل مكروه