انخاذ التماثيل (الأصنام ؟؟)
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وآله وصحبه ، وبعد :
فمما هو معلوم شرعاً ، أنه لا يجوز تعليق التصاوير لذوات الأرواح ، ولا اتخاذ التماثيل ومثلها الحيوانات المحنطة في المنازل ، ولا في المجالس ؛ ولا في المكاتب ؛ لعموم الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على تحريم تعليق الصور ، وإقامة التماثيل في البيوت وغيرها ؛ لأن ذلك وسيلة للشرك بالله سبحانه ، ولأنَّ في ذلك مضاهاةً لخَلْق الله ، وتشبها بأعداء الله ممن يعظم الأصنام ويعبدها من دون الله تعالى ، ولما في ذلك من إضاعة المال .
وقد جاءت الشريعة الإسلامية الكاملة ، بسدِّ الذرائع المُفْضية إلى الشرك أو المعاصي ، وقد وقعَ الشرك في قوم نوحٍ عليه السلام بأسباب تصوير خمسة من الصالحين في زمانهم ، ونصب صورهم وتماثيلهم في مجالسهم ، كما بيّن الله سبحانه ذلك في كتابه المبين ؛ حيث قال سبحانه : ( وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كثيرا ) نوح :23-24 .
وقد صح عن رسول الله أنه قال لعلي بن أبي طالب : ” ألا تدعَ صورةً إلا طَمَستها ، ولا قبرًا مُشرفًا إلا سوَّيته ” . أخرجه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : ” أشدُّ الناسِ عذاباً يوم القيامة : المُصوِّرون ” . متفق على صحته.
فوجب الحذر من مُشابهة هؤلاء في عملهم المُنْكر هذا ؛ والذي وقع بسببه الشرك .
وللأصنام تاريخٌ بعيد ، مع الاعتراف الجازم بأنَّ التوحيد ؛ الذي عبادة الله وحده لا شريك له ، هو السابق ، وهو الأصل في البشرية ، فإنَّ الناس هم بنو آدم عليه السلام وهو نبي من أنبياء الله تعالى ، علّمه الله أسماء كل شيء ، قال تعالى ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) البقرة : 213.
وجاء عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسيرها : كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلّهم على شريعة من الحقّ ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . رواه الطبري وصححه .
فعبادة الأصنام أمرٌ حادث ، حصل في التاريخ البشري نتيجة الجهل والبعد عن شريعة الأنبياء ، وتلاعب الشيطان ببعض الأمم .
وقد وضع المؤرخ هشام بن السائب الكلبي كتاباً في أصنام العرب ، سمّاه بـ :” كتاب الأصنام ” ، ذكر فيه سبب عبادة الأوثان والحجارة قبل الإسلام ، وغيره .
وقد دعا إبراهيم الخليل عليه السلام ربّه كما قال الله : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) إبراهيم .
قال مجاهد : فاستجاب الله لإبراهيم عليه السلام دعوته في ولده ، قال : فلم يعبد أحدٌ من ولده صنما بعد دعوته .
قال : والصَّنم : التمثال المصوّر ، ما لم يكن صنما فهو وثَن . رواه الطبري .
ومن الأصنام التي عُبدت قبل الإسلام : اللات والعُزى وهُبل ، وودّ وسُواع ويَعوق ويَغوث ونَسْر .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في خاتمة كتابه “إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان” :
فصل : وتلاعبُ الشيطانِ بالمشركين في عبادة الأصنام ؛ له أسبابٌ عديدة ، تلاعبَ بكل قومٍ على قدر عقولهم : فطائفةٌ دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى ؛ الذين صوّروا تلك الأصنام على صورهم ، كما تقدّم عن قوم نوح عليه السلام ، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتّخذين على القبور المساجد والسرج ، ونهى عن الصلاة إلى القبور ، وسأل ربّه سبحانه أنْ لا يجعل قبره وثناً يعبد ، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيداً ، وقال:” اشتدَّ غضبُ الله ، على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ”.
وأمر بتسوية القبور ، وطمس التماثيل .
قال : فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله ؛ إما جهلاً ، وإما عناداً لأهل التوحيد ، ولم يضرهم ذلك شيئاً ، وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين ، وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم ، وجعلوا لها بيوتاً وسَدَنة وحجاباً وحجاً وقرباناً ، ولم يزل هذا في الدنيا قديماً وحديثا ، فمنها بيت على رأس جبل بأصبهان ، كانت به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس وجعله بيت نار.
ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء ؛ بناه بعض المشركين على اسم الزُّهرة ؛ فخرّبه عثمان رضي الله عنه . ومنها بيت بناه قابوس الملك ، على اسم الشمس بمدينة فرغانة ، فخرّبه المعتصم ، وأشد الأمم في هذا النوع من الشرك الهند. قال يحيى بن بشر: إنَّ شريعة الهند وضعها لهم رجل يقال له : برهمن ، ووضع لهم أصناما ، وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن السند ، وجعل فيه صنمهم الأعظم ؟! وزعم أنه بصورة الهيولي الأكبر ، وفتحت هذه المدينة في أيام الحجاج ، واسمها : الملتان .
إلى أنْ قال رحمه الله : وأصل هذا المذهب منهم : مشركي الصابئة ؛ وهم قوم إبراهيم عليه السلام ، الذين ناظرهم في بطلان الشرك ؛ وكسر حُجتهم بعمله ، وآلهتهم بيده ، فطلبوا تحريقه.
قال : وهذا مذهبٌ قديمٌ في العالم ، وأهله طوائف شتى ، فمنهم عباد الشمس ؛ زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل ؟! وهي أصل نور القمر والكواكب ، وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها، وهي عندهم ملك الفلك ؟ يستحق التعظيم والسجود والدعاء .
ومن شريعتهم في عبادتها : أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهر على نوع النار ، وله بيت خاص قد بنوه باسمه ، وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع ، وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم ، ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ، ويصلون ويدعون ويستسقون به، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم ، وإذا غربت ، وإذا توسّطت الفلك ، ولهذا يقارفها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة ؛ لتقع عبادتهم وسجودهم له ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات ؛ قطعا لمشابهة الكفار ظاهراً ، وسدا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام … إلى آخر ما قال رحمه الله .
والشرك هو: جعل شريك لله تعالى في ربوبيته أو إلهيته أو أسمائه وصفاته ، والغالب الإشراك في الألوهية ، وهو أن يدعو مع الله إلهاً غيره ، أو يصرف له شيئا من أنواع العبادة : كالدعاء والاستغاثة ، والذبح والنذر ، والخوف والرجاء والمحبة .
والشرك هو أعظم الذنوب مطلقاً ، وذلك لأمور :
1 – لأنه تشبيهٌ للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية ، فمن أشرك مع الله أحدا ؛ فقد شبَّهه به ، وهذا أعظم الظلم ، ولهذا قال تعالى : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) لقمان : 13.
والظلم : هو وضع الشيء في غير موضعه . فمن عَبَد غير الله تعالى ، فقد وضع العبادة في غير موضعها ، وصرفها لغير مستحقها ، وذلك أعظم الظلم .
2 – إنَ الله أخبر أنه لا يغفر لمنْ لم يتبْ منه ، كما قال الله تبارك وتعالى : ( إنّ الله لا يَغفر أنْ يشركَ به ويَغفر ما دون ذلك لمنْ يشاء ومن يشركْ بالله فقد افترى إثماً عظيما ) النساء : 48 . فكونه ( لا يغفر) تعليل لأبدية الخلود .
وقال تعالى :( ومَن يُشركْ بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً ) النساء : 116.
3- وأخبر أنَّ من أشرك به ؛ فقد حرّم الله عليه الجنة أبداً ، قال تعالى : ( لقد كفر الذين قالوا إنَّ الله هو المسيحُ ابن مريم وقالَ المسيح يا بني إسرائيل اعبُدوا الله ربّي وربكم إنّه مَنْ يشرك بالله فقد حرَّم اللهُ عليه الجَنةَ ومأواه النار وما للظالمين من أنْصار) المائدة : 72.
4- وبيَّن سبحانه انحطاط رُتبة المُشرك في الدنيا والآخرة ، وتفرّق شمله ، فقال تعالى :( فاجتنبوا الرّجسَ من الأوثان واجْتنبوا قولَ الزور * حُنفاءَ لله غيرَ مشركين به ومَنْ يُشركْ بالله فكأنَّما خرّ من السَّماء فتَخطفه الطيرُ أو تَهوي به الريحُ في مكانٍ سَحيق) الحج :31.
5- وأخبر تعالى عباده أنّ الشرك يُحبط جميع الأعمال ، فقال سبحانه وتعالى لصفوة خلقه ؛ وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ؛ بعد أنْ أثني عليهم : ( ذلك هُدى الله يهدي به مَنْ يشاء ولو أشْركوا لحَبِط عنهم ما كانوا يعملون )الأنعام : 88 .
وقال لخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم :( ولقد أوْحينا إليك وإلى الذين مِن قبلك لئنْ أشركتَ ليَحْبطنّ عملك ولتكونّن من الخاسرين * بل اللهَ فاعبدْ وكنْ من الشّاكرين ) الزمر: 65 .
فالشرك بالله تعالى أعظمُ ذنبٍ عُصي الله به ، ولهذا أخبرنا سبحانه أنه لا يَغفره ، وأنه لا أضل من فاعله ، وأنه مخلد في النار أبداً ؛ لا نصيرَ له ولا حميم ولا شفيع يطاع ، وأنه لو عبد الله تعالى ليلاً ونهاراً ؛ ثم أشرك مع الله تعالى غيره لحظة من اللحظات عامداً عالماً ، ومات على ذلك ، فقد حَبط عمله كله بتلك اللحظة التي أشرك فيها ، ولو كان نبياً رسولاً .
والآيات في بيان عظم الشرك ووعيد فاعله أكثر من أنْ يحاط بها هاهنا ، وقد مرَّ بعضها .
* وفي معناها من الأحاديث ما لا يُحْصى أيضاً ، ولنذكر من ذلك ما تيسر :
1- ففي صحيح البخاري : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :” مَنْ مات يُشرك بالله شيئاً دخل النار ” . وقلت أنا : ومَنْ مات لا يُشرك بالله شيئا دخل الجنة.
2- وفيه : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله ، ما الموجبتان ؟ فقال :” مَنْ ماتَ لا يُشرك بالله شيئا دخلَ الجنة ، ومَنْ مات يشرك بالله شيئا دخل النار ”.
3- وفيه : عنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” مَنْ لقي الله لا يُشرك به شيئا دخل الجنة ، ومَنْ لقي الله يُشرك به شيئا دخل النار ”.
4- وفيه : من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” أتاني جبريل عليه السلام فبشرني : أنه مَن مات من أمتك لا يُشرك بالله شيئاً ؛ دخل الجنة . قلت : وإنْ زنى وإنْ سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق ”.
وفيه : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : ” أنْ تجعلَ لله نداً وهو خلقك ” الحديث .
5- وفيه : عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :” ألا أنبئكم بأكبر الكبائر - ثلاثا – : الإشْراكُ بالله ، وعُقوق الوالدين ، وشهادة الزُّور ” الحديث .
وغيرها من الأحاديث ، نسأل الله تعالى العصمة من ذلك ، وأن يتوفانا مسلمين .