كيف نتدبر القرآن ؟
السؤال :
نحن طالبات ندرس العلوم الشرعية ؛ وعندنا مادة تدبر القرآن الكريم بطريقة وخطوات معينة ؛ ونحن درسنا على هذه الطريقة لمدة ثلاث سنوات ؛ ومنّا مَن لا تحفظ القران كاملاً ولا تحسن قراءته ؛ وليس عندها علم بأصول التفسير ؛ وطريقتنا في التدبر : أن نقرا السورة بالتكرار ؛ ثم نستخرج من السورة الألفاظ المكررة والمتشابهة ؛ ونستخرج أركان الإيمان الستة الواردة بالسورة ؛ ونستخرج القصص ؛ والأمثال والأحكام من الأوامر والنواهي ؛ ونستخرج الألفاظ الغريبة ؛ ونضع أسئلة على الآيات وقد تكون فيها أسئلة صياغتها خاطئة ؛ أو منها ما هو سؤال لا يليق وفيه تعنت .
هل تجوز هذه الطريقة بوضع أسئلة استفسارية فقط قبل البحث في كتب العلماء الصحيحة من التفاسير ؟ وهل من السلف من انتهج هذه الطريقة التي تعمم علينا ؟
وهل أحد من العلماء الموجودين الآن فعل مثلها في مجلسه مع تلامذته ؟
الجواب :
الحمد لله ، والصلاة على رسول الله ؛ وعلى آله وصحبه ؛ ومن اهتدى بهداه ،،، وبعد :
فالقرآن العظيم هو كلامُ اللهِ العليمِ الخبيرِ، الذي لا يأتيه الباطل مِنْ بين يديه ولا مِن خلفه ، ( تنزيلٌ من حكيمٍ حميد ) فصلت :42 .
ولهذا حثنا اللهُ سبحانَهُ على قراءته وتدبره ، فقال سبحانه : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) ص : 29.
ففي قراءة القرآنِ ؛ وتدبُّرهِ وفهمه ؛ والعملِ بِهِ ؛ هدايةٌ وصلاحٌ ؛ وخيرٌ وسعادة ؛ وشفاءٌ للفردِ وللمجتمع ؛ من جميع أمراضه الحسيّة والمعنوية ، وتلبيةٌ لحاجاتِهِ الدنيوية والأخروية ، قال تعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ويُبشّر المؤمنينَ الذين يعْملون الصّالحات أنّ لهم أجراً كبيراً ) الإسراء : 9.
وقال : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الإسراء :82 .
وتدبّر القرآن ؛ هو مفتاحٌ للعلوم والمعارف كلّها ، وبه يزداد الإيمان في القلب ؛ وكلما ازداد العبد تفكراً وتأملاً فيه ؛ ازداد علماً وعملاً وبصيرة .
قال الحسن رحمه الله : ” نزلَ القرآنُ ليُتدّبر ، ويُعْمل به ؛ فاتّخذُوا تلاوته عَملاً ” .
لكن لا بدّ لمن أراد تدبر القرآن الكريم : من فهمه أولاً ، والنظر في معناه ، وما تدلّ عليه الآيات ، من كلام أهل العلم والإيمان ، وقراءة ما كتبوا في تفسير القرآن الكريم ، فلا يأتي التدّبر دون فهمٍ المعاني ؟! ومعرفة الألفاظ العربية ومدلولاتها ؟!
فهذا مما لا يُخالف فيه أحدٌ مِن أهل العلم ؟! قديماً ولا حديثاً ؛ وغيره خبط عشواء ؟ وقولٌ على الله تعالى بغير علم ؟ وهو محرمٌ بالنص ؛ قال تعالى : ( وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة : 168-169.
وقال تعالى : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النحل : 116- 117.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فتاويه : ” وتدبّر الكلامِ بدون فهم معانيه ، لا يُمْكن ؟! ” . فتاوى ابن تيمية ( 13/ 331-332 ) .
وقال أيضا رحمه الله في مقدمة أصول التفسير : ” يجب أنْ يُعْلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه معاني القرآن ، كما بيَّن لهم ألفاظه ، كقوله تعالى ( لتُبين للناسِ ما نُزِّل إليهم ) سورة النحل : 44 ، يتناول هذا وهذا “.
ويقول الإمام الزركشي رحمه الله تعالى : ” التفسير علمٌ يُفهَم به كتاب الله المنزَّل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحِكَمه ، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف ، وعلم البيان ، وأصول الفقه ، والقراءات ، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ” . البرهان في علوم القرآن ( 1/ 13) .
وقال أيضاً : ” ينقسم القرآن العظيم إلى : ما هو بينٌ بنفسه بلفظ لا يحتاج إلى بيان منه ، ولا من غيره ، وهو كثير، ومنه قوله تعالى : ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ …) الآية ، التوبة : 112 .
وقوله : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ …) الآية ، الأحزاب : 35 .
والثاني : ككثير من أحْكام الطهارة ، والصّلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحَج والمعاملات والأنْكحة والجنايات ، وغير ذلك كقوله تعالى : ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) الأنعام : 141 ، ولم يَذكر كيفية الزكاة ، ولا نِصابها ولا أوْقاصها ، ولا شروطها ولا أحوالها ، ولا مَنْ تجب عليه ممن لا تجب عليه ، وكذا لم يُبيّن عدد الصلاة ولا أوقاتها …” .
ونُنبّه : أنه لا يجوز الخروج عن منهج السلف في فهم القرآن الكريم ؛ فمنهجهم ـ في جملته ـ معصومٌ عن الخطأ ، وإذا أجْمعوا على تفسير فلا يكون الصواب في خلافه ، ويبقى جهد من بعدهم في التأمّل فيه ، وتنويع الأمثلة التي تقاس عليه ، أو تدخل تحته .
لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : ” لا تَجتمع أُمتي على ضَلالة “. رواه ابن ماجة والطبراني وغيرهما .
ومعناه : أنَّ أمّة النبي صلى الله عليه وسلم التي آمنتْ به ، لا تجتمع وتتفق على حكم شرعي ، ثم يكون ذلك الحكم ضلالة ؛ بل إذا اجتمعت على حُكم ؛ فإنّ اجتماعها عليه دليل على أنه حقٌ ، فهي لا تجتمع ولا تتفق على ضلالة ؛ بل على الحق .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” فإنَّ الصحابة والتابعين والأئمة ، إذا كان لهم في تفسير الآية قولٌ ، وجاء قوم فسروا الآية بقولٍ آخر ، لأجل مذهبٍ اعتقدوه ، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، صاروا مشاركين للمعتزلة ؛ وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا ؟!
وفي الجملة من عَدَل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم ؛ إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك ، بل مبتدعًا ، وإنْ كان مجتهدًا مغفورًا له خطؤه ، فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته ، وطرق الصواب .
ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم ، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه ، كما أنهم أعلمُ بالحقّ الذي بعث اللّه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن خالف قولهم وفسّر القرآن بخلاف تفسيرهم ، فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعاً ، ومعلوم أن كل مَن خالف قولهم له شبهة يذكرها ، إما عقلية وإما سمعية ، كما هو مبسوط في موضعه ” . مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية .
فالواجب إذن : على مَنْ أراد فهم كتاب الله تعالى ، الرجوع إلى كتب التفسير ، التي جمعت كلام السلف من أهل الفقه والفهم في كتاب الله ، والمعرفة بمعاني ألفاظ الكلمات العربية ، ومفردات اللغة ؛ ويبدأ بالمختصر منها ، قبل المطوّل ، فالمختصر ككتب غريب القرآن ، لابن قتيبة والهروي وغيرهما ، وكلمات القرآن للسعدي ، والهُدَى والبيان في كلماتِ القرآن ، لكاتبه .
والمتوسط كتفسير السعدي ، وأيسر التفاسير للجزائري .
والمطوّل كتفسير الطَّبري والبَغَوي والسَّمعاني وابن كثير وغيرها .
والتفسير المختصر يبين معاني القرآن الكريم ، بعِبارةٍ وجيزة ، وألفاظٍ قليلة .
إذن : من الخطأ الواضح ، والغلط البيّن ، ومن الانحراف عن منهج السلف السابقين ، وطريق الأئمة المهديين ، ويعدُّ أضاً من العبث وتضييع الجهود والزمان ؛ في زعم تدبر القرآن ؟! بالدخول إلى هذا الباب من العلم الشريف ؛ بغير علمٍ ولا فهم للكتاب العزيز ؟! ونؤسس للبناء فيه من جديد ؟! والبحث عن كيفية جديدة ؛ ومنهج محدث لتدبر للآيات ؟!
كيف ونحن نمتلك في هذا الباب ، تراثاً عظيماً ، مباركاً فريداً ، من عشرات المصنفات والكتب ؛ تركه لنا علماء التفسير ، وأهل القرآن وعلومه ، والربانيون الأكابر من هذه الأمة المباركة ، عبر خمسة عشر قرنا من الزمان .
لذا كان وجوباً علينا أنْ ننظر في هذا التراث المبارك ، ونطلع على ما دونه الأولون ، ونكتشف الكنوز ، والفوائد والفرائد ، ونتعلم منه ونستفيد .
ولا مانع من الإضافة إليه بما يمكننا ذلك ، والبناء عليه ، وفق القواعد العلمية ؛ في عملية مستمرة من الإنتاج العلمي ، والإبْداع في تدبر القرآن الكريم ، فإنه الكتاب الذي لا تفنى عجائبه ، ولا يَخْلق عن كثرة الرد ، ولا يشبع منه العلماء .
والله تعالى الموفق للحقّ والصواب لا ربّ غيره ؛ ولا إله سواه .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
وكتـــــبه
د . محمــد الحمــــود النجــــدي