الوقْف أجره ومنافعه
السؤال (371) : ما أجر الوقف ؛ وما هي منافعه للمسلمين ؟
الجواب :
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
وبعد :
فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : ( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) سورة الحديد : 18.
فقد حثَّ الله تعالى عباده على التصدّق في سبيله ؛ والبذل والعطاء ؛ لما للصدقات ؛ والصدقات الجارية خاصّة ( الوقف ) من فوائد عظيمة للأمة الإسلامية جمعاء ؛ وليس للواقف والمتصدّق نفسه فقط .
والوقف صورة عظيمة من صور البر والإحسان في الإسلام ، صورة تغطي جانباً من جوانب التكافل ، وتعالج معالجة حقيقية لكثير من حاجات المجتمع واحتياجاته .
ويُعرف الوقف الخيريّ بأنَّه : كلّ شيء يُتصدّق به الإنسان على جهةٍ من جهات البرّ والخير التي لا تنقطع أبداً ، فالواقف يقوم على حبس عينٍ معينة أنْ لا تكون ملكاً لأحد ، ويُجعل الوقف وريعه لجهة من جهات البر ؛ وذلك من أجل أنْ يعم نفعها على جميع المسلمين ويدوم ، ويدخل في هذا الوقف كل من الفقراء ، والمساكين ، واليتامى ، والمحتاجين وطلاب العلم والمجاهدين وغيرهم .
قال أهل العلم : الوقف شُرع لمصالح لا توجد في سائر الصدقات ؛ فإن الإنسان ربما صرف مالاً كثيراً ثم يفنى هذا المال ؛ ثم يحتاج الفقراء مرة أخرى ؛ أو يأتي فقراء آخرون فيبقون محرومين ، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء وقفاً للفقراء وابن السبيل ؛ يُصرف عليهم من منافعه ؛ ويبقى أصله .
ففي الوقف تطويلٌ لمدة الاستفادة من المال ، وإفادة للأجيال اللاحقة ؛ بما لا يضر الأجيال السابقة .
* وفوائد الوقف عظيمة ؛ فمن الفوائد التي تعود على الواقف والأمة المسلمة :
1- أنَّ الله تعالى يُضاعف للواقفين ؛ قروضهم التي أقرضوها لربهم في الدنيا ، فيُوفّيهم ثوابها يوم القيامة ؛ بأجرٍ كريمٍ ، وذلك هو الجنة ؛ كما في الآية السابقة .
2- أنَّ أجرَ الوقف دائمٌ لا ينقطع ، حتى بعد انتهاء حياة المتبرع ؛ ورحيله عن هذه الدنيا الفانية ؛ يقول سبحانه وتعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) الحديد : 12.
3- أنَّ الوقف يُمكّن أهلَ الخير والصلاح من تقديم الدعم للمجتمعات ؛ والقيام بمسؤولياتهم الاجتماعية والعلمية والتربوية والإغاثية ؛ تجاه إخوانهم المسلمين في داخل بلادهم وخارجها .
4- أنّ الواقف يُساهم في إحْياء سُنّة من سنن النَّبي صلى الله عليه وسلم .
5- أن الوقف من الأمور الضرورية والمهمة في مثل هذه الأوقات ، إذْ أضحت الدول اليوم ؛ لا تُعطي كافة الجهات المحتاجة حقّها من بيت المال ؛ وربما تعطلت هذه الجهات ؛ وتضرر المسلمون ، ومنها :
– الجهات العلميّة والتربوية : حيث يحفظ الوقف العلم الشرعي ؛ من القرآن والسنة وعلومهما من الضياع ، وخاصة في الوقف القائم على إنشاء المدارس ؛ وكفالة المدرسين وطلبة العلم ؛ وطباعة الكتب .
– الجهات الأسريّة : حيث تعمُّ فائدة الوقف أفراد الأسرة كلهم ، فعندما يوقف الواقف بعض أمواله ، او بعض ممتلكاته على ذريته ومصالحهم ، فإنَّه سوف يحرص على حمايتهم من الحاجة والفقر ، ويضمن لهم مستقبلهم .
ففي الوقف : ضمان لحفظ المال ؛ ودوام للانتفاع به ؛ وتحقيق للاستفادة منه مُدداً طويلة ؛ وآماداً بعيدة .
– الجهات الاجتماعية : وتتمثل في مساعدة الجهات الفقيرة والمحتاجة في المجتمعات الإسلامية .
– الجهات العسكريّة : عندما يُخصص جزء من الوقف إلى الجهات العسكريّة والمجاهدين ، فإنَّ نفعه عليهم عظيم ؛ إذْ يستطيعون شراء الأسلحة، والأدوات اللازمة لزيادة قوة الجيش ؛ وتدريب الإفراد .
وكان أول المسارعين إلى ذلك ؛ هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد بادروا بوقف جزءٍ من أموالهم ، وحبس أشياء من أملاكهم وعقارهم ؛ فهاهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفضل طرق الخير ؛ ووجوه البر ؛ قائلاً : يا رسول الله : إني أصبتُ مالاً بخيبر ؛ لم أُصبْ مالاً أنفس عندي منه ؛ فما تأمرني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ” إنْ شئت حبّست أصْلها ؛ وتصدّقت بها ؛ غير أن لا يُباع أصلها ؛ ولا يوهب ولا يورث ” . قال : فتصدّق بها عمر في الفقراء ؛ وفي القربى ؛ وفي الرقاب ؛ وفي سبيل الله ؛ وابن السبيل ؛ والضعيف ، لا جناح على مَنْ وليها أنْ يأكل منها بالمعروف ؛ أو يطعم صديقاً غير متمولٍ فيه . متفق عليه .
وهذا أبو طلحة رضي الله عنه كان أكثر الأنصار بالمدينة مالاً ؛ وكان أحب ماله إليه بستان بيرحاء ، وكان مستقبل المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ؛ ويشرب من ماءٍ طيب فيها . قال أنس بن مالك رضي الله عنه : فلما نزل قوله تعالى : ( لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران :92 ، قام أبو طلحة فقال : يا رسول الله ؛ إن الله تعالى يقول : ( لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران :92. وإنَّ أحب أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله ؛ أرجو برّها وذخرها عنده ، فضعها حيث أراك الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” بخٍ بخٍ ؛ ذلك مالٌ رابح ؛ وقد سمعتُ ما قلت ، وإني أرى أنْ تجعلها في الأقربين ” ، فقال أبو طلحة : أفعل ذلك يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه . رواه مسلم.
وأوقف أبو بكر رضي الله عنه رَبَاعاً له في مكة على الفقراء والمساكين ؛ وفي سبيل الله ؛ وذوي الرحم القريب والبعيد .
وكذلك أوقف عثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر والزبير رضي الله عنهم أجمعين .
ومن أمهات المؤمنين أوقفت : عائشة وأم سلمة وصفية وأم حبيبة رضي الله عنهن .
وخالد بن الوليد رضي الله عنه ؛ احتبس أدرعه وأعتاده في سبيل الله .
يقول جابر رضي الله عنه : ما بقي أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة ؛ إلاّ وَقف .
وقال الشافعي رحمه الله : وأكثر دور مكة وقف .
ثم سار من بعدهم الأغنياء من المسلمين فأوقفوا الأوقاف ؛ فبنوا المساجد ، وأنشؤوا المدارس والكتاتيب ؛ وأقاموا الأربطة ، وسبلوا المزارع ؛ لم يدفعهم إلى التبرع بأنفس ما يجدون ؛ وأحب ما يملكون ؛ ولم يتنازلوا عن هذه الأموال الضخمة ؛ والثروات الهائلة ؛ إلا لعظم ما يرجون من فضل ربّهم ؛ ويأمّلون من عظيم ثوابه سبحانه ؛ ثم الشعور بالمسئولية تجاه جماعة المسلمين والأقربين ؛ أفراداً وجماعات ، جمعيات وهيئات ، أقرباء وغرباء .
فالحمد لله الذي شرع لعباده من الطاعات ؛ ما يُقرّبهم إلى رضوانه ، ويرفع منازلهم في جنانه .
والله الموفق لما يحب يرضى من العمل الصالح ؛ والعلم النافع .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم