في ختام الشَّهر الفضيل
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أهل المغفرة والرحمات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي للقربات، صلى الله عليه وآله وصحبه أولي الفضل والمكرُمات.
لقد كانت أيام هذا الشهر المبارك؛ معمورةً بالصِّيام والذكر وتلاوة القرآن، ولياليه مُنِيرة مضيئة بالصَّلاة والقيام، لقد مضت تلك الأيام الغَرر، وانتهت تلك الليالي الدُّرر، وكأنَّما هي ساعة مِنْ نهار، فنسألُ الله أنْ يُخلف علينا ما مضى منْها خيراً، والبركة فيما بقي منها فضلا، وأنْ يتمَّ لنا شهرنا المبارك بالرحمة والمغفرة، والعتق من النار، وأنْ يعيده علينا أعواماً عديدة، ونحن نتمتع بالأمن والإيمان، والسَّلامة والإسْلام.
وإنَّ الله تعالى شَرع لعباده في ختام هذا الشهر؛ عباداتٍ جليلة، يزداد بها إيمانهم وتُقرِّبهم إلى ربهم، وتكمل بها عبادتهم، وتتمَّ بها نعمة ربِّهم عليهم، من أهمِّها: زكاة الفطر، والتكبيرُ عند إكمال عدة الصيام، وصلاة العيد .
– أمَّا زكاة الفطر: فقد فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً مِنْ طعام، ففي صحيح البخاري: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ”.
وفي صحيح البخاري أيضاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : “كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ؛ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ، وَالزَّبِيبُ، وَالْأَقِطُ، وَالتَّمْرُ”.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ؛ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ؛ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ”. رواه أبو داود (1371).
قوله: “طهرة” أي: تطهيراً لنفس مَنْ صام رمضان، “من اللغو” أي: الكلام الذي لا فائدة منه، وقوله “والرفث” قال ابن الأثير: الرفث هنا هو الفحش من كلام، قوله “وطُعمة” بضم الطاء وهو الطعام الذي يؤكل. قوله: “من أداها قبل الصلاة” أي: قبل صلاة العيد، قوله “فهي زكاةٌ مقبولة” الزكاة هنا هي زكاة الفطر، قوله “صدقة من الصدقات” يعني: التي يتصدق بها في سائر الأوقات، وليست زكاة.
وقيل: هي المقصودة بقوله تعالى في سورة الأعْلَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) الأعلى: 14-15. فقد جاء عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ قَالا: “أَدَّى زَكَاةَ الْفِطْرِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلاةِ ” أي: صلاة العيد. كما عند ابن جرير وغيره، وحكاه ابن الجوزي في الزاد: عن أبي سعيد الخدري وعطاء وقتادة.
ويجبُ أنْ يُخرجها المُسلم عنْ نفسه، وعمَّن تلزمه نفقته منْ زوجةٍ وأولاد، وسائر مَنْ ينفق عليهم منْ خادمٍ ونحوه، ولا يجبُ إخراجها عن الحمل الذي في البطن، ولكن يجوز أنْ يخرجها عنه منْ باب الاستحباب، ويخرجها في البلد الذي صام الشهر فيه، وإن كان مَن يلزمه أن يخرج عنهم زكاة الفطر في بلد؛ وهو في بلد آخر؛ فإنه يُخرج فطرتهم مع فطرته في البلد الذي هو فيه، ويجوزُ أنْ يفوِّضهم في إخراجها عنه وعنهم في بلدهم .
وَإِنْ مَاتَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيهِ الفِطْرَةُ قَبْلَ أَدَائِهَا، أُخْرِجَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ.
ووقتُ وجوب إخراجها يبدأ بغروب الشمس من ليلة العيد، ويستمر إلى صلاة العيد، ويجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين أو ثلاثة، أي: في اليوم السابع والعشرين، واليوم الثامن والعشرين، واليوم التاسع والعشرين، وقبل ذلك لا يجوز.
ففي صحيح البخاري: عن نافع قال: كان ابن عمر يُعطي عن الصغير والكبير، حتى أنه كان يعطي عن بنيّ، وكان يعطيها الذين يقبلونها، وكان يُعطون قبل الفطر بيوم أو بيومين.
ومعنى قوله: “الذين يقبلونها” هم الجُباة الذين ينصبهم الإمام لجمع صدقة الفطر.
وفي الموطأ: عَنْ نَافِعٍ: إنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَبْعَثُ بِزَكَاةِ الفِطْرِ إلَى الَذِي تُجْمَعُ عِنْدَهُ، قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ بِثَلاثَةٍ.
وتأخير إخراجها إلى صباح العيد قبل صَّلاة العيد أفضل، وإن أخَّر إخراجها عن صلاة العيد منْ غير عُذرٍ أثم، ويلزمه إخراجها ولو تأخرت عن يوم العيد، ويكون ذلك قضاءً.
والمستحق لزكاة الفطر هم: المساكين، والفقراء مثلهم وأشد حاجة، فقط دون غيرهم؛ كما في حديث ابن عباس: “طُعمة للمساكين” وهي رواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية .
ونصَّ الإمام أحمد رحمه الله على أنه: يَجُوزُ صَرْفُ صَاعٍ إلَى جَمَاعَةٍ، وَآصُعٍ إلى واحِدٍ.
فيدفعها إليه، أو إلى وكيله في وقت الإخراج.
ومقدارُ صَدقة الفطر عن الشخص الواحد: صاعٌ من البُر أو الشعير أو التمر أو الزبيب أو الأقط، فيُخرِج من هذه الأصناف، وما كان معتاداً أكله منَ القوت في البلد، مما يغلب استعماله؛ كالأرز والقمح والذرة والعدس والدخن وغيرها.
– ولا يجزئ دفع القيمة في زكاة الفطر، بأنْ يُخرج النقود بدلاً عن الزكاة، لأنَّ ذلك مُخالف لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومُخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم، فلم يكونوا يخرجون النقود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة مِنْ بعده، مع أنَّ النقود كانت موجودة عندهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم : “مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ”. متفق عليه.
– وأمَّا التكبير في عيد الفطر : فإنه يُشْرع منْ غروب الشَّمس ليلة العيد، إلى صلاة العيد، قال الله تعالى: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البقرة: 185، ويُسنُّ جهر الرجال به في المساجد والطرقات والأسواق والبيوت، إعلاناً لتعظيم الله عز وجل، وإظهاراً لعبادته وشكره، وقد ثبت “أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى، وَحَتَّى يَقْضِيَ الصَّلَاة، فِإِذَا قَضَى الصَّلَاة،َ قَطَعَ التَّكْبِيرَ”. رواه ابن أبي شيبة في المصنف (2/164)، وانظر الصحيحة للألباني (171).
أمَّا صفةُ التكبير : فقد ورد عن بعض الصحابة أنهم يقولون: “اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ”.
أو يكبر ثلاثاً، فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله . الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. كلّ هذا جائز .
يقول ذلك كلُّ مُسلم بمفرده، أمَّا التكبيرُ الجماعي بصوتٍ واحدٍ، يتفقون في البدء والانتهاء، فليس من السُّنة، ولم يفعله أحدٌ منْ سلف الأمة، والخير كل الخير في اتباعهم .
والسُّنة في حق النساء أنْ يكبرّن سراً؛ لأنهن مأمورات بغض الصَّوت والستر؛ إلا في بيتها وبين أخواتها.
ما أجْمل حال الناس، وهم يملئون الآفاق بتكبيرهم تعظيماً لله وإجلالاً؛ إعلاناً لانتهاء شهرهم، وشُكراً لله على توفيقه لهم بإتمام الصيام، واتباعاً لرسولهم عليه، وتعبّداً لله تعالى بهذه الأذكار العظيمة، التي فيها الجَهر بالعظمة لله تعالى، والكبرياء والمجد والثناء، حُبَّاً ورجاء، وخوفاً وطمعاً .
– وأمَّا الأحكام المتعلقة بالعيد: فيستحب الاغتسالُ للعيد، وأنْ يلبس المُسلم أحسن ثيابه، ويمسَّ مِنْ طيبه، ولا يجوزُ له أن يتجمل لا في العيد ولا في غيره؛ بثياب مِنْ حرير، أو ثياب مُسبلة، أو بلباس شفّاف يصف العورة، أو ضيِّق يُحجّمها، أو بألبسة مختصّة بالكفار، ولا يجوز له أنْ يتجمل لا في العيد ولا في غيره بحلق لحيته، لأن حلقها مُحرَّم، وليس من الجمال في شيء؟! وفيه تشبه بالكفار وبالنساء؛ وإنَّما الجمالُ حقاً، والتزين صدقاً، باتباع السنة النبوية، ولزوم هدي إمام الأمة وقائدها صلى الله عليه وسلم .
ويُسنُّ للمسلم أنْ يأكل تمراتٍ في عيد الفطر قبل أنْ يغدو إلى المُصلى، لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر، حتى يأكل تمراتٍ، ويأكلهن وِتراً”. رواه البخاري .
ويُسَن له إذا خرج أنْ يخالف الطريق، فيذهب في طريق ويرجع في آخر، لحديث جابر رضي الله عنه قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد، خالف الطريق”. رواه البخاري .
وصلاة العيد لا أذانَ لها ولا إقْامة، فعن جابر بن سمُرة رضي الله عنه قال: “صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غيرَ مرَّةٍ ولا مرتين، بغير أذانٍ ولا إقامة”. رواه مسلم .
وليس قبل صلاة العيد ولا بعدها صلاة .
ويُسْتحب للمسلم سماع الخطبة، لما في الاجتماع عليها من التَّذكير بالخير، والدعاء، والذِّكر، ومعرفة أحكام وآداب العيد .
والتهنئة بالعيد أمرٌ حسنٌ وطيبٌ، لفعل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، فعن جبير بن نفير قال: “كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يومَ العيد، يقولُ بعضُهم لبعض: تقبَّل الله منا ومنك” . رواه ابن أبي شيبة.
– والمرأة يُشرع لها الخُروج إلى المُصلى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إنَّ صلاة المُؤمنات في البيوت، أفضل لهنَّ منْ شُهود الجُمعة والجماعة، إلا العيد، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمرَهنَّ بالخُروج فيه” .
لكن دون تبرجٍ ولا تطيب، فلا تذهب لطاعة الله تعالى؛ وهي متلبسة بمعصية الله، من التَّبرج والسُّفور، والتَّطيب أمام الرجال الأجانب، قال صلى الله عليه وسلم: “لا تَمْنعوا إماءَ الله مساجدَ الله، ولكنْ ليَخْرجن وهنَّ تَفِلات” أي: غير متطيبات. رواه أبو داود .
فقد كان منْ هديه صلى الله عليه وسلم أمْرُ النساء بالخُروج إلى صلاة العيد، فعن أمّ عطية رضي الله عنها قالت: “أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى؛ الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ، قَالَ: “لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا”. متفق عليه.
– ولنعلم أنَّ العيد في شريعتنا، وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم عبادةٌ ونُسُك، ومظهر من مظاهر الفرح بفضل الله ورحمته، وفرصة عظيمة لتصفية النفوس، وإدْخال السُّرور على الأهل والأولاد والأصْحاب، ولا يعني ذلك الانفلات من الضوابط، والتحلُّل منَ الأخلاق والآداب، بل لا بدّ فيه مِنْ مراعاة الدّين والآداب التي شَرعها لنا ربُّنا سبحانه وتعالى، فالفرح واللهو في العيد لا يُبيح ارتكاب المُحرَّمات، ولا الإخلال بالواجبات، فعن أنس رضي الله عنه قال: “قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: “قد أبدلكم الله تعالى بهما خيراً منهما: يومَ الفطر، والأضْحى”. رواه أحمد وأبو داود .
ودخل النبي على عائشة رضي الله عنها وَعندها جَارِيَتَانِ تَلْعَبَانِ بِدُفٍّ، وذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فأنكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه، فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا”. رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: وكان يوم عيد يلعب السودان بالدّرق (الدرع من الجلد) والحراب، فإمّا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإمّا قال: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم، فأقَامني وراءه، خدّي على خدّه، وهو يقول: “دُونكم يا بني أرفدة، حتّى إذا مللتُ، قال: حَسْبك؟، قلت: نعم، قال: فاذهبي”. رواه البخاري .
اللهم اخْتم لنا شَهرنا بما يُرضيك عنَّا؛ منْ صالح الأعمال والأقوال، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك .