الإنسانية الحقَّة
الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وآله وصحبه ومَن اهتدى بهداه.
وبعد:
فإنّ الإسلام هو دينُ الإنْسانية الحقَّة، الإنسانية التي تَنطلق من العقيدة الإسلامية، وتتعامل مع الناس وَفْقَ الخُلقِ الإسلاميِّ القويم، وإنْسَانية هذا الدين تَعمُّ كلَّ البشر، فلا تُفرِّق بين أسْودَ وأبيض، ولا تتغير وِفْق المَصالح والأهْواء، ولا تَتبدَّل حسب القُوّة والسُّلطان، كما نراه في واقعنا اليوم، مِنْ أدْعياء الإنْسَانية المُزيَّفة، التي يَتشدَّقون بها أمَام العالمين، وهم يَحتكرونها لبني جنسهم فقط، ولأهل مِلَّتهم وحْدهم.
وقد بَعثَ اللهُ تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالرَّحمة العامّة للخَلق كافّة، بل وللإنس والجنّ، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء: 107.
أي: أرسله رحمة لهم كلهم.
عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسولَ الله، ادْعُ على المُشْركين، قال: “إنّي لمْ أُبْعثْ لَعّاناً، وإنّما بُعِثْتُ رَحْمة”. أخرجه مسلم.
فهو رحمةٌ لكلّ مَنْ في الأرْض، وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: “الرَّاحِمُون يَرْحمهم الرَّحمن، ارْحَمُوا مَنْ في الأرْض، يَرْحمُكم مَنْ في السماء”. أخرجه أبوداود والترمذي.
فديننا هو دينُ الرّحْمة للإنْسَان عُموماً، بل والحيوان، وفي كلّ ذي كبدٍ رَطْبة أجر، كما قال النّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث.
– وقد أمَرَ اللهُ سبحانه وتعالى عباده بالإحْسَان أيضاً، فقال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة: 195.
فالإحْسَان واجبٌ على المُسْلم في كلّ تصرفاته، ومع كلّ الخَلْق.
وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: “إنّ اللهَ كتَبَ الإحْسَان على كلّ شَيء، فإذا قَتَلْتم فأحْسَنوا القِتْلة، وإذا ذَبَحتم فأحْسنُوا الذِّبحة، وليُحِدَّ أحدُكم شَفْرَته، وليُرحْ ذَبيحته”. رواه مسلم.
وقال تعالى في وصيّةٍ عظيمة للمسلمين وغيرهم: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) النساء.
فلم يترك أحداً مِنَ التّعامل معه بالإحْسان.
ونُصُوص الكتاب الكريم، والسُّنّة النّبوية الشّريفة، وأعمالُ المُسْلمين في هذا الباب كثيرة لا تُحْصَر، ممّا لا يُوجد له نظيرٌ في دينٍ مِنَ الأدْيان.
فديننا إذن: دينُ الإحْسَان الشَّامل، جاء لإخْرَاج الناس مِنَ الظُّلمات إلى النّور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى ربّ العباد، ومنْ جَوْر الأدْيان إلى عَدْل الإسْلام.
والأصلَ في علاقة المُسْلمين بغيرهم، هي عِلاقة صِلة وتَعارف ودَعوة؛ كما قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات: 13، وذلك التَّعارفَ وتلك الصِّلة، هي أقصرُ وأفضل طريق للدعوة إلى هذا الدِّين العظيم، فكم مِنْ أفْراد وجَمَاعات، بل وشُعوبٍ وأمم؛ دخلتْ هذا الدّين بحُسنِ المعاملة لهم، بالقَوْل والعَمَل، وطِيبِ المُعاشرة.
– وإليكم ذلكم المَوقفَ النبوي: الذي تَتجلَّى فيه إنْسَانية هذا الدِّين العظيم، في شَخْص النَّبي المُصْطفى صلوات الله وسلامه عليه، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أَنَّ غُلَامًا مِنَ اليَهُودِ كَانَ يَخدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وسلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وسَلَّم يَعُودُهُ ، فَقَعَدَ عِندَ رَأسِهِ، فَقَال: “أَسْلِم” فَنَظَرَ إِلى أَبِيهِ وهُوَ عِندَ رَأسِه، فَقالَ لَه: أَطِعْ أَبا القَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسلَّم، فَأَسلَمَ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ علَيه وسلَّم وهُوَ يَقُولُ : “الحَمدُ لِلَّهِ الذِي أَنقَذَهُ مِنَ النَّارِ”. رواه البخاري (1356).
فهذا المَوقف النَّبوي يكشف جانباً إنسانيّاً هامًّا في التَّعامل مع غيرِ المُسلمين، وهو أنّ تلك الزّيارةَ النبوية، الرّحيمة الكريمةَ، لفتًى يهوديٍّ، في بيتٍ يهوديٍّ، وهو خادم صغيرٌ، وليس بسيِّدٍ ولا بأمير، ومع ذلك فقد تجلَّت مشاهدُ العظمة الإنسانيَّة، والكرَم والأخْلاق والنُّبلُ المُحمّديُّ، من سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين لهذا الفتى.
وقد ذكر نبينا صَلَّى اللَّهُ علَيه وسلَّم أنّ الله غَفر لبغيٍّ فيمنْ كان قبلنا بسَبب كلب رأته يَلْهث مِنَ العَطش، فسقتُه فغفر الله لها.
وذَكر أيضاً: عُذّبت امرأة بالنار؛ بسببِ هِرّة حَبَستْها؛ فلا هِيَ أطْعمتها، ولا هي تَرَكتْها تأكل مِنْ خَشَاش الأرْض.
فالإنسانية الحقَّة هي في دينِ الإسْلام، الذي جاء والإنْسَانيّة في جَاهلية جَهْلاء، وضلالة عمياء، يأكل قويّهم ضَعيفهم، ولا يَرحم غنيهم فقيرهم، فأخرجَهم الله بهذا الإسلام، وبهذا القرآن، مِنَ الظُّلمات إلى النُّور، ومِنَ الشّرك إلى التوحيد، ومِنَ الجهل إلى العِلم النافع، ومِنَ الظلم والجَور إلى العدل.
ولا يَصْلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصْلح أولها، فليكن انْتسابنا إلى دين الإنسانية الحقّة، واعْتزازنا به، وفَّق الله الجميع للتمسك بالإسْلام، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.