عَضْلُ النّسَاء
السؤال: ما حُكمُ الوَليّ الذي يُعطّل زواج بناته أو أخواته، لأسبابٍ تافهة؟
الجواب:
حمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه.
وبعد:
فمِنْ مَحَاسن الإسْلام العَظيمة، وفَضائله الكثيرة؛ أنّه رفع عن المَرأة الظلم والضيم الذي كان واقعا عليها قبل الإسلام، وحافظ على كرامتها وعِفّتها، ورَفَع قَدرها في المجتمع، فالنّساءُ شَقَائق الرّجال، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
والله عزّ وجل يقول: (ولهنَّ مِثلُ الذِي عَلَيهنّ بالمَعْرُوف) البقرة: 228.
وقد وعَد النّبيّ صلى الله عليه وسلم مَنْ رَزَقه اللهُ البَنات، فقَامَ عليهنّ، وأحْسَنَ إليْهنّ، وَعَدَه أجْراً عَظِيماً، فقد روى أبو داود: عن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ عَالَ ثَلاثَ بناتٍ، فأدّبهُنَّ، وزَوَّجَهنّ، وأحْسنَ إليْهنّ فلَه الجَنَّة”.
وحينَ مَنع الشّرعُ المَرأة مِنْ تزويجِ نَفْسِها بغيرِ وليّ، فإنّما كانَ ذلك حِفَاظاً عليها، ورِعايةً لها، وصِيانةً لحَيائها وكرامَتها، وهو مِنْ مَصْلحتِها عَاجِلاً وآجلاً.
لكنْ في الوقْتِ نفسِه؛ أمَرَ الأولياء بتقْوَى اللهِ في النّسَاء، والحِرْصِ على مَصَالحهن، واخْتيار الأزْواجِ الصّالحينَ المَرْضيين لهُنّ.
فعن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم: “إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ؛ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا؛ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وفَسَادٌ عَرِيضٌ”.
رواه الترمذي وابن ماجة، وحسنّه الألباني في “صحيح الترمذي”.
قال عليّ القاري رحمه الله: “إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ” أَيْ: طَلَبَ مِنْكُمْ أَنْ تُزَوِّجُوهُ امْرَأَةً مِنْ أَوْلَادِكُم وأَقَارِبِكُم، “مَنْ تَرْضَوْنَ” أَيْ: تَسْتَحْسِنُونَ “دِينَهُ” أَيْ: دِيَانَتُهُ، “وخُلُقَهُ” أَيْ: مُعَاشَرَتُهُ، “فَزَوِّجُوهُ” أَيْ: إِيَّاهَا، “إِنْ لَا تَفْعَلُوهُ” أَيْ: لَا تُزَوِّجُوهُ، “تَكُنْ” أَيْ: تَقَعُ “فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وفَسَادٌ عَرِيضٌ” أَيْ: ذُو عَرْضٍ، أَيْ: كَثِيرٍ، لِأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُزَوِّجُوهَا إِلَّا مِنْ ذِي مَالٍ أَوْ جَاهٍ، رُبَّمَا يَبْقَى أَكْثَرُ نِسَائِكُمْ بِلَا أَزْوَاجٍ، وأَكْثَرُ رِجَالِكُمْ بِلَا نِسَاءٍ، فَيَكْثُرُ الِافْتِتَانُ بِالزِّنَا، ورُبَّما يَلْحَقُ الْأَوْلِيَاءَ عَارٌ، فَتَهِيجُ الفِتَنُ والفَسَادُ، ويَتَرَتَّبُ عَلَيهِ قَطْعُ النَّسَبِ، وقِلَّةُ الصَّلَاحِ والعِفَّةِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه اللَّهُ: “وفي الحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يُرَاعَى فِي الْكَفَاءَةِ إِلَّا الدِّينَ وَحْدَهُ”. “مرقاة المفاتيح” (5/ 2047).
وقال رجلٌ للحَسن: قد خَطبَ ابنتي جماعةٌ، فمَنْ أُزَوِّجُهَا؟ قَالَ: مِمَّنْ يَتَّقِي اللَّهَ، فَإِنْ أَحَبَّهَا أكرَمَها، وإنْ أبْغضَها لمْ يَظلمها.
لكنْ بعضُ الأوْلياءـ هَدَاهم الله ـ يَعْضُلون النّساء، والعَضْل: هو مَنْعُ البنت أو الأخت مِنَ الزّواج، إذا تَقدّم لها الكُفْؤ، الذي ترضاه، وتُوافق عليه، وهو أمرٌ مُحرّمٌ بالشّرع.
وهؤلاءِ الأولياء الذينَ يَفْعلون ذلك، يَرْتكبُونَ مُنْكراً وإثْماً مُبيناً، ويُخَالفون كتابَ الله وشَرْعه، فقد نَهَى اللهُ تعالى عن عَضْل البَنَات، فقال: (فلا تَعضُلوهنّ أنْ ينكحنَ أزواجهنّ إذا تَراضَوا بينهُمْ بالمَعْروف) البقرة: 232.
فهذا خطابٌ لأولياء المَرأة المُطلّقة دُون الثلاث إذا خرجتْ مِنْ العدة، وأراد زوجها أنْ ينكحها، ورَضيتْ بذلك، فلا يَجُوز لوليها، منْ أبٍ وغيره أنْ يَعْضِلها، أي: يَمْنعها منَ التّزوّج به، والرُّجُوع إلى زوجها، حَنقاً عليه وغَضباً وكراهة لما فَعلَ مِنَ الطّلاق الأوّل.
وذَكّرهم الله تعالى: بأنّ مَنْ كان يُؤمن بالله واليوم الآخر؛ فإيمانه يَمنعه مِنَ العَضْل، فإنّ ذلك أزكى له وأطْهَرُ وأطْيب، ممّا يظنّ الولي أنَّ عَدمَ تَزْويجه هو الرأيّ الصّحيح، واللائق به، وأنّه يُقابلُ بطلاقه الأول بعَدم التّزويج له، كما هي عادةُ المُترفّعين المُتكبّرين.
ثم قال: فإنْ كان يظنّ أنّ المَصْلحة في عَدَم تَزْويجه؟ فالله تعالى (يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فامْتَثلوا أمرَ مَنْ هو عَالمٌ بمَصَالحكم، مُريدٌ لها، قادرٌ عليها، مُيسّرٌ لها مِنَ الوجه الذي تَعرفون، وغيره ممّا لا تَعرفون.
قال العلماء: وفي هذه الآية: دليلٌ على أنّه لا بُدّ مِنَ الوَليّ في النكاح، لأنّ الله تعالى نَهى الأولياء عن العَضْل، ولا يَنْهاهم إلا عنْ أمْرٍ هو تحتَ تَدْبيرهم، ولهُم فيه حَقّ.
وهناك القِصة المشهورة، قصة مَعْقل بن يَسَار رضي الله عنه، الذي زَوّج أختَه رجُلاً مِنْ المُسْلمين فطلّقها، فلمّا انْقَضتْ عِدّتها؛ جاءَ يَخْطُبها، فرفضَ معقل بن يسار، وقال: أكرَمْتُك وزَوّجتك فَطَلّقْتها، واللهِ لا تَرْجع إليها أبَدَاً. وكانت المَرأةُ تُريده، فنزل قول الله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم) البقرة: 232، فلمَا سَمِعَها معقل بن يسار، دعا الرّجل فزوّجه. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة.
– ولربّما عَضَل وليّ اليَتِيمة اليَتِيمة، مِثل ابنَ عمّها، وهو لا يُريدُها، ولكنْ يُريدُ مالَها، كما روت عَائِشَةُ رضي الله عنها فِي قَوْلِهِ تعالى: (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ، وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) النساء: 127. قالتْ: أُنْزِلَتْ فِي اليَتِيمَةِ، تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَتَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْها أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، ويَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَه، فَيَشْرَكُهُ في مَالِهِ، فَيَعْضِلُهَا، فلَا يَتَزَوَّجُهَا ولَا يُزَوِّجُهَا غَيْرَهُ”. رواه الشيخان.
فبانَ بالآية والحَديث؛ أنَّ المَالَ أهمّ سببٍ لعَضْل الفتاة، ومَنْعها مِنْ الزّواج، ومنْ صُوره المُنْتشرة في عصرنا هذا: أنْ يَعْضلَ الأبُ ابْنَته، أو الأخ أخته، لأجلِ ما تَكتسبه مِنْ مالٍ إنْ كانتْ مَوظّفة، أو لأنّ اسْمها مُسجّل في الضمان الاجتماعي ويُسقط منه إنْ تَزوّجت، فلمّا صارتْ مصدرَ دخلٍ للأسْرة، قد اعتادَ عليه الوَليّ؛ عَسُرَ عليه أنْ يزوّجها فيَفقده.
ومِنَ الأولياء مَنْ يُزوّجها بشرط أنْ تَبْذلَ له راتبَ وَظيفتها، أو جُزْءاً منه على الدوام.
– وأخيراً:
النصيحةُ لجميعِ الشّباب والفتيات؛ البدار إلى الزّواج، والمُسَارعة إليه، إذا تيسّرت أسْبابه، فعن ابن مَسْعود قال: “كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم شَبَاباً لَا نَجِدُ شَيْئاً، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وسَلَّم: “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ منكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ، وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ”. فرواه البخاري (5066) ومسلم (1400).
وقوله صلى الله عليه وسلم: “تزوّجُوا الوُدُود الوَلُود، فإنّي مُكاثِرٌ بكم الأمَم”. خرجه الإمام أحمد وصحّحه ابن حبان.
ولمَا في ذلك من المَصَالح الكثيرة للأمّة، والتي نَبّه عليها النّبيّ صلى الله عليه وسلم، منْ غَضّ البَصَر، وحِفْظ الفَرْج، وتكثير الأمّة، والسّلامة مِنْ فسادٍ كبير، وعَواقَب وَخيمة، نسأل الله الهداية والصلاح لجميع المسلمين والمسلمات.
والله تعالى الموفق والهادي للصواب.
وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه