أرشيف الفتاوىفتاوى

طريقةُ أهلِ السُّنّة والجماعة في نُصْح الحاكم

طريقةُ أهلِ السُّنّة والجماعة في نُصْح الحاكم

نُصْح الحَاكم

السؤال: ما هي طريقةُ أهلِ السُّنّة والجماعة في نُصْح الحاكم؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.

وبعد:

فهذا السُّؤال هو ممّا يتعلّق بالسّياسة الشّرْعيّة، في حُقوق الرّاعي والرّعيّة، فيما يجبُ على الحاكم المُسلم مِنْ أداءِ الأمَانات، والحُكم بين الناسِ بالعَدل والحقّ، وما يجبُ على الرعيّة مِنَ السّمع والطّاعة، والتَّوقير والاحْترام.

والمتقرّر عند أئمةِ السّنَّة والجَماعة، وعُلَماء الملّة: أنّ نَصيحةَ الحُكّام، والإنْكار عليهم إذا أخْطأوا؛ إنّما يكونُ ذلك بحَضْرتهم، وليس على المَنابر يوم الجُمعة، ولا في الصُّحُف، ولا في وسَائلِ التواصل اليوم، ولا في المَجالس العامّة وغيرها.

 وهذا ما دلّ عليه الكتابُ والسّنة، وهو ما يُقرّره أهلُ العلم في أداء النّصيحة حتى للحاكمِ الكافر، فَضلاً عن المُسْلم.

فقد قالَ الله تعالى في كتابه لنبيّيه مُوسى وهارون عليهما السّلام: (اذْهَبا إلى فِرْعونَ إنّه طَغَى* فقُولا له قَولاً ليّناً لعلّه يَتذَكّر أو يخْشَى) طه: 43-44.

قال العُلماء: يدلُّ قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ لمُوسى وهارون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) على إنَّ النَّصيحةَ لوُلاة الأمُور وغيرِهم تكون أمَامهم، وبرفقٍ ولينٍ وحِكْمة، كما أمرَ اللهُ تعالى موسى وهارون عليهما الصّلاة والسلام.

ويدلُّ عليه أيضاً من السّنّة النّبوية: حديث عياض بن غُنم أنه قال لهشام بن حَكيم رضي الله عنهما: ألم تَسمع بقولِ رسُول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أرادَ أنْ يَنْصحَ لذِي سُلْطَان؛ فلا يُبده علانية، ولكنْ يَأخذُ بيدِه فيَخْلُو به، فإنْ قَبِل منْه فذاكَ، وإلا كان قد أدّى الذي عليه”. أخرجه ابن أبي عاصم في “السنة” وأحمد، في المسند، والحاكم في المستدرك، وقال الهيثمي في “مجمع الزوائد”: “رواه أحمد ورجاله ثقات، وصححه الألباني في “ظلال الجنة في تخريج السنة”.

قال العلامة السّندي رحمه الله: في “حاشيته على مسند أحمد”: “في قوله: “منْ أراد أنْ يَنصحَ لسُلطان” أي: نصيحة السُّلطان يَنْبغي أنْ تكونَ في السِّر، لا بينَ الخَلْق. اهـ.

كما أنّ هذه؛ هي طريقة الصّحابة رضي الله عنهم في النُّصْحِ للإمام.

فعن أبي وائل شَقيق بن سلمة قال: قيل لأسَامة رضي الله عنه: ألا تَدْخل على عُثمان فتكلِّمَه؟ فقال: “أتُرَوْن أَنِّي لا أُكلِّمُه إلاَّ أُسْمعُكم؟ والله؛ لقد كلَّمْتُه فيما بَيني وبَينه، ما دون أنْ أفتحَ أمْراً؛ لا أُحبُّ أنْ أكونَ أوَّلَ مَنْ فتحَه”.

أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم.

قال الحافظ ابنُ حَجر رحمه الله في “فتح الباري”: “قوله “قد كلمتُه ما دُون أنْ أفتح بابا” أي: كلمتُه فيما أشَرْتم إليه، لكنْ على سبيلِ المَصلحة والأدب في السّر، بغير أنْ يكون في كلامِي ما يُثير فتنةً أو نَحْوها”. اهـ.

– وقال الإمامُ الألباني رحمه الله في تعليقه على “مختصر صحيح مسلم” (رقم: 335): “يعنى المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ؛ لأنّ في الإنكار جِهاراً ما يُخشى عاقبته؛ كما اتفق في الإنْكار على عثمان جهاراً؛ إذْ نَشَأ عنه قتله” اهـ.

– وقال الإمامُ ابن باز رحمه الله في “مجموع فتاوى”: “ليس مِنْ مَنْهج السّلف التشهير بعيُوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأنّ ذلك يُفضي إلى الفَوْضى، وعدم السّمع والطّاعة في المعروف، ويُفضي إلى الخوض الذي يضرّ ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النّصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.

أمّا إنكار المُنْكر بدون ذِكر الفاعل: فينكر الزّنا، وينكر الخَمر، ويُنْكر الرّبا مِنْ دُون ذكر مَن فعله، فذلك واجبٌ؛ لعُموم الأدلّة.

ويكفي إنكار المَعاصي والتّحذير منها، مِنْ غير أنْ يذكر مَنْ فَعَلها، لا حَاكماً ولا غير حَاكم”. اهـ.

– وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في “رسالة حُقُوق الرعي والرعية”: “اللهَ اللهَ في فَهْم منهج السّلف الصّالح، في التعامل مع السُّلطان، وأنْ لا تُتخذ منْ أخْطاء السلطان سبيلًا لإثارة النّاس، وإلى تنفير القلوب عن وُلاة الأمر، فهذا عينُ المَفسدة، وأحد الأسُس التي تحصل بها الفتنة”. اهـ.

– وأمّا حديثُ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: “أفضلُ الجِهاد؛ كَلِمةُ عَدلٍ عندَ سُلْطانٍ جائر”. رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسنٌ.

فالمقْصودُ بالجِهاد في هذا الحديث: هو الأمرُ بالمَعروف والنّهي عن المُنكر للسُّلطان بحَضْرته، ممّن يكون عنده، ونحو ذلك مِنْ عباداتِ اللسّان، ولذلك قال: كلمة عَدل أو حقٍّ عند سُلطان، والكلام إنّما يُؤدّى باللسان، وهذا ليس مِنَ الخروج على الأئمة، وإنّما هو مِنَ النُّصح لهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدِّينُ النّصِيحة، قلنا: لمَن؟ قال: “لله ولكتَابهِ ولرَسُوله، ولأئمَّةِ المُسْلمين، وعَامَّتِهم”. رواه مسلم.

– وقال العُلماء فيه أيضاً: أنّ للسُّلطان بِطانتان: بِطانةٌ السُّوء، وبِطانة الخير.

فبِطانةُ السُّوء: تَنْظر ماذا يُريد السّلطان، مهْمَا كان، ثمّ تزيّنه له وتقول: هذا هو الحَقّ، وهذا هو الحَسَن، وهذا ما يَقْتضيه العقل، ولو كان- والعياذ بالله- من الجَورِ والظُّلم، تفعلُ ذلك مُدَاهنةً للسّلاطين، وطلباً للدُّنيا.

أمّا بِطانة الحَقّ: فإنّها تنظر ما يرضي الله تعالى ورسُوله صلى الله عليه وسلم، فتدلّ الحاكم عليه، وتذكّره به، وهذه هي بِطانة الخَير والصلاح.

وكلمةُ الباطلِ عند السُّلطان، هذه – والعياذ بالله- هي ضدُّ الجِهاد.

والله تعالى أعلم.

زر الذهاب إلى الأعلى