التأديب ( التعزير ) في الشريعة المطهرة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه
وبعد :
فالتعزير من العقوبات المشروعة في الإسلام ، متى احتيج له .
والعقوبات في الشريعة الإسلامية على ثلاثة أنواع :
1- القصاص : وهو في جرائم القتل ، والتعدي على الأطراف والجنايات .
2- الحدود : وهي العقوبات المقدرة شرعا : كحد الزنى ، وحد السرقة ، ونحوهما .
3- التعزير : وهو التأديب على ذنوب ومعاصي لم تشرع فيها الحدود .
فإذا ارتكب مسلم مخالفة شرعية لم يرد الشرع بتقدير عقوبة خاصة بها ، ورأى الأب أو أو المدرس ، أو القاضي أو إمام المسلمين أن فيها شراً ، أو خطرا تستحق العقوبة عليها ، فإن له أن يعاقب هذا المتعدي بما يراه مناسبا لجرمه وذنبه ، وهذا ما يسميه الفقهاء بـ ” التعزير ” ، وله أحكام وتفصيلات كثيرة مذكورة في كتب الفقه .
والتعزير لغة : مصدر عزّر يعزر من ” العزر” وهو الرد والمنع .
ويقال أيضا : عزّر فلان أخاه بمعنى : نصره وقواه ، لأنه منع عدوّه أن يؤذيه ، كما في قوله تعالى : ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه ) الفتح : 9.
ويقال : عزرته بمعنى ” وقرته ” وأيضا ” أدبته ” وهي من أسماء الأضداد .
وقد سميت العقوبة تعزيرا لأن من شأنها أن تدفع الجاني وترده عن ارتكاب الجرائم ، وتمنعه من العودة إلى اقترافها .
ويعرفه الفقهاء بأنه : عقوبة غير مقدرة تجب حقا لله أو لآدمي في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة ، وهو كالحدود في أنه تأديب استصلاح وزجر .
والتعزير يكون في حقّ لله تعالى ، وحق للعباد .
المراد بحقّ الله هو ما تعلّق به سبحانه من الواجبات ، وترك المحرمات .
وجاء في ” الموسوعة الفقهية الكويتية ” (12/263) :
” الأصل : أنه لا يبلغ بالتعزير القتل ، وذلك لقول الله تعالى : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) الأنعام : 151 .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ” متفق عليه.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى جواز القتل تعزيراً في جرائم معينة بشروط مخصوصة ، فمن ذلك :
1- قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس على المسلمين لصالح الأعداء .
وذهب إلى جواز تعزيره بالقتل مالك ، وبعض أصحاب أحمد ، ومنعه أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو يعلى من الحنابلة ، وتوقف فيه أحمد .
2- ومنه أيضا : قتل الداعية إلى البدع الشنيعة والمكفرة ، والمخالفة للكتاب والسنة ونهج سلف الأمة ، كالجهمية والخوارج والباطنية والملاحدة ونحوهم .
وقد ذهب إلى ذلك كثير من أصحاب مالك ، وطائفة من أصحاب أحمد .
ومثلها اليوم المذاهب الإلحادية المعاصرة ، كالشيوعية والعلمانية والليبرالية والماسونية .
3- وأجاز أبو حنيفة التعزير بالقتل فيما تكرر من الجرائم ، إذا كان جنسه يوجب القتل .
وقد أجمع الفقهاء على أنّ ترك الواجب ، أو فعل المحرّم معصية تستلزم التعزير ، فإذا ترك الإنسان ما يجب عليه أن يفعله ، أو ارتكب محرّما فإنه يكون بذلك قد اقترف معصية تستوجب التعزير ، إذا لم تكن هنالك عقوبة مقدرة ، وإذا كانت المعصية تتعلق بغير المكلّف من الصبيان ، فهذا لا ينفي جواز التعزير حسب السنّ من أجل الإصلاح والتهذيب والزجر ، ولأنّ كفّ الأذى عن الغير حق لله تعالى واجب على عباده .
وأما ترك الصبيّ للمندوب ، أو فعله للمكروه ، فيجوز في ذلك التعزير الخفيف بالعتاب واللوم .
فإذا ارتكب شخص ما فعلا منكرا ليس فيه حدّ من الشارع ، من غير أن يجني بذلك على أحد ، يمكن أن يعزر بذلك على هذا الفعل ، ويكون التعزير هنا حقا لله تعالى ، لأن محاربة الشرور والجرائم ، وإخلاء البلاد من الفساد ، واجب على ولاة أمور المسلمين ، وفيه دفع للضرر العام عن الأمة ، وتحقيق نفع عام لها .
* أغراض العقوبات التعزيرية :
التعزير في الشريعة الإسلامية لا بدّ أن يكون لغرض التأديب والردع والزجر ، والإصلاح والتهذيب ، وكف الأذى عن الخلق ، والزجر معناه : منع الجاني من معاودة ما ارتكبه ، أو التمادي فيه ، ومنع غيره أيضا من ارتكاب مثل ما ارتكب ، لعلمه أن التعزير سيطاله أيضا إن هو ارتكب مثله ، وبالتالي فإنّ منفعة الزجر مزدوجة للجاني ، ولغيره من الناس ممن تسول له نفسه بذلك .
ولا يجوز بأيّ حال من الأحوال أن يكون التعزير تشفّيا أو انتقاما ، أو تفريغا لحقد ، حيث إن الغرض من التعزير إنما هو الردع والزجر ، مع الإصلاح والتهذيب كما ذكرنا .
* أنواع التعازير :
التعازير أنواع ، لكن نقول :
أولا : يحرم التعزير والتأديب الذي قد يؤدّي إلى إتلاف عضو من أعضاء البدن ، أو إلحاق ضرر به ، لأنه خلاف مقصود التعزير .
ولأنه في الأصل أقل من الحدود المقدرة شرعا .
ولكن ينبغي أيضا أن تكون العقوبة على قدر الحاجة ، فلا تكون أقلّ مما يفي بها ، ولا أكثر مما ينبغي لها ، بل تكون بقدر ما يتحقق به الغرض دون زيادة أو نقصان ، وما دام الهدف هو الزجر والمنع ، فلا ينبغي التعامل مع مختلف الناس ، أو الأبناء ، أو التلاميذ بنفس النوع من التعزير .
فمنهم من ينزجر بالنظرة الحادة ، ومنهم من تنفعه الكلمة والنصيحة ، وآخر بالحرمان مما يحب ، وآخر بتقييد الحرية ، وآخر بالضرب أو الطرد وهكذا .
التعزير وحده لا يكفي :
التعزير يمكن أن يكون التعزير سببا للإصلاح والتهذيب ، إلا أنّ التهذيب الحقيقيّ ينبغي أن يكون بتنمية الوازع الديني بالخوف من الله تعالى ، والمراقبة الداخليّة للشرع ، والانضباط بالعلم الشرعي بما قال الله سبحانه في كتابه ، وما قاله رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم في أحاديثه وتوجيهاته الكريمة ، فيتعلّم الإنسان الحسن والقبيح ، والحلال والحرام ، ويعلم ما له وما عليه ، ليتضح أمامه طريق الشر فيجتنبه ، وطريق الخير فيأتيه ، ويحذر من رفقاء السوء ومجالسهم ومنتدياتهم .
إلا أنّه في حال ارتكاب المحظور ، ينبغي التأديب لغرض الإصلاح والزجر ، وحتى لا يعود إلى مثله ، ولا يستمرّ فعله .
ترك التعزير ضار بالأمة :
إذا ما انتفى التعزير من الأمة ، وأهمل في التربية ، فستكون النتيجة جيلا متجرءا على المعاصي والآثام والجرائم ، لا يبالي بحرمات الناس ، ولا يمنعه شيء عن أموالهم أو أعراضهم أو دمائهم ، وشبابا متميّعا ضائعا ، لا يحرّكه إلا رغبات النفس وشهواتها ، ولا يردّه شيء عنها ، ولا يكون عنده معنى للقيم والأخلاق ، ولا للمبادىء ولا للواجبات الشرعية ، فينخزم بذلك النظام العام للمجتمع ، وتسوده الفوضى ، وتبرد العزائم عن معالي الأمور ، وتنطفئ الهمم .
وبالتعزير يتعلّم الناس حدود التصرّفات والحرّيّة الشخصية ، ويعرفون مسؤوليتهم عن تصرفاتهم وأفعالهم ، فيجتنبون طريق الشر ، ويأتون طريق الخير ، وبه نحقق المجتمع المسلم الصالح ، الذي تسوده المحبة والود والاحترام ، ونرفع عنه أسباب الكراهية والبغضاء والشحناء والعداوات .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين