الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وآله وصحبه أجمعين
أما بعد :-
فقد آلم المسلمين والمسلمات جميعا ما سمعوا من سب مقذع لأم المؤمنين ن والصديقة الطاهرة المبرأة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها ، من شخص نكرة ، لا قيمة له ولا وزن .
وهذه مقالة في بيان حكم السب أو الطعن في الصديقة عائشة رضي الله عنها ، وعن باقي أمهات المؤمنين رضي الله عنهن .
فنقول : إن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أولا : داخلات في عموم الصحابة رضي الله عنهم ، لأنهن منهم ، وقد رأين النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به ، واتبعنه على الإيمان ، وعملن من الصالحات ، وبعضهن ممن هاجرن معه ، وجاهدن معه ، وحضرن الغزوات ، حججن واعتمرن معه ، وأنفقن في سبيل الله في حياته وبعد مماته ، ثم قمن بما أمرهن الله في قوله ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا ) الأحزاب : 34 . أي : يعلم خبايا الأمور ، وخفايا الصدور .
فكن رضي الله عنهن خير معلمات للأمة ، ومبلغات لدينه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، خصوصا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فهي ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فوق الألف من الأحاديث النبوية ، وكانت تستدرك على الصحابة كثيرا من المسائل العلمية والفقهية ، وغير ذلك من أعمال البر والفضل والإحسان مما تميزن به .
وكل ما جاء في تعظيم حق الصحابة ، وتحريم سبهم ، والتنقص لشأنهم ، من آيات قرآنية ، وأحاديث نبوية ، فإن ذلك يشملهن وزيادة ، لما لهن من المنزلة العظيمة في الدين ، وقوة القرابة من سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم ، فهن زوجاته وحلائله وأهله وحريمه ، والتعرض لهن تعرض لشخص النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، وهذا لا يخفى على العميان ؟؟!
وقد بين أهل العلم حكم سابهن والمتعرض لهن بالسوء ، وما يستحق من عقوبة أو ذنب ، وبينوا ذلك أوضح بيان في أقوالهم المأثورة ومؤلفاتهم المختلفة .
فأولاً : أهل العلم من أهل السنة والجماعة أجمعوا قاطبة ، على أن من طعن في عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه في كتابه ، وبما رماها به المنافقون من الإفك والبهتان والفاحشة ، فإنه كافر بالله العظيم ، لأنه مكذب بما ذكره الله في كتابه من إخباره ببراءتها وطهارتها ، والمكذب لله تعالى كافر بلا شك ولا ريب ، وقالوا : إنه يجب قتله لذلك .
وعلى هذا كلام أهل العلم :
1- فقد ساق أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه المحلى بإسناده : إلى هشام ابن عمار قال : سمعت مالك بن أنس يقول : من سب أبا بكر وعمر جلد ، ومن سب عائشة قتل ، قيل له : لم يقتل في عائشة ؟ قال : لأن الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين }، قال مالك : فمن رماها فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن ُقتل .
قال أبو محمد رحمه الله : قول مالك ههنا صحيح ، وهي ردة تامة ، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها . المحلى (13/504) .
2- وحكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر الطيب قال : إن الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه ، كقوله {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه }، و ذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك } ، سبح نفسه في تبرئتها من السوء كما سبح نفسه في تبرئته من السوء ، وهذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة ، ومعنى هذا – والله أعلم – أن الله لما عظّم سبها كما عظم سبه ، وكان سبها سباً لنبيه ، وقرن سب نبيه وأذاه بأذاه تعالى ، وكان حكم مؤذيه تعالى القتل ، كان مؤذي نبيه كذلك .
الشفاء للقاضي عياض (2/267-268) .
3- وقال أبو بكر بن العربي : إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله ، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله ، ومن كذب الله فهو كافر ، فهذا طريق قول مالك ، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب .
أحكام القرآن لابن العربي (3/1356) .
4- وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ” الصارم المسلول على شاتم الرسول ” بعض الوقائع التي قتل فيها من رماها رضي الله عنها بما برأها الله منه ، حيث يقول : وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري : سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق أتى المأمون بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة والآخر عائشة ، فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر ، فقال إسماعيل : ما حكمهما إلا أن يقتلا لأن الذي شتم عائشة رد القرآن .
قال شيخ الإسلام : وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم .
5- وقال أبو السائب القاضي : كنت يوماً بحضرة الحسن بن زيد وهو ابن الحسن بن أبي طالب المدني بطبرستان ، وكان بحضرته رجل فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة ، فقال : يا غلام اضرب عنقه ، فقال له العلويون : هذا رجل من شيعتنا ، فقال : معاذ الله ؟؟! إن هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة و رزق كريم } ، فإن كانت عائشة خبيثة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث ، فهو كافر فاضربوا عنقه ، فضربوا عنقه وأنا حاضر .
6- وروي عن محمد بن زيد أخي الحسن بن زيد أنه قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة رضي الله عنها بسوء ، فقام إليه بعمود فضرب دماغه فقتله ، فقيل له : هذا من شيعتنا ؟! و من بني الآباء ؟ فقال : هذا سمى جدي قرنان – أي من لا غيرة له – ومن سمّى جدي قرنان ، استحق القتل فقتلته .
7- وقال القاضي أبو يعلى : من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف ، وقد حكي الإجماع على هذا غير واحد ، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم .
8- وقال أبي موسى – و هو عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن جعفر الشريف الهاشمي إمام الحنابلة ببغداد في عصره – : ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه ، فقد مرق من الدين ، ولم ينعقد له نكاح على مسلمة . انظر الصارم المسلول ( ص 566- 568) .
9- وقال الإمام النووي في تعداده الفوائد التي اشتمل عليها حديث الإفك : الحادية والأربعون : براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك ، وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز ، فلو تشكك فيها إنسان – والعياذ بالله – صار كافراً مرتداً بإجماع المسلمين ، قال ابن عباس وغيره : لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين ، وهذا إكرام من الله تعالى لهم . شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 117- 118 ) .
10- وقال ابن قدامة المقدسي : ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء ، أفضلهم خديجة بن خويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا و الآخرة ، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم . لمعة الاعتقاد (ص 29 ) .
11- وقال بدر الدين الزركشي : من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببراءتها . الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة (ص 45 ) .
12- وقد حكى العلامة ابن القيم اتفاق الأمة على كفر قاذف عائشة رضي الله عنها ، حيث قال : واتفقت الأمة على كفر قاذفها . زاد المعاد (1/106) .
13- وقال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم } ، قال : أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ، ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر ، لأنه معاند للقرآن .
وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما أنهن كهي ، والله أعلم .
حسن التحرير في تهذيب تفسير ابن كثير (3/244) .
14- وقال السيوطي عند آيات سورة النور من قوله تعالى { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . } الآيات ، قال : نزلت في براءة عائشة فيما قذفت به ، فاستدل به الفقهاء على أن قاذفها يقتل ، لتكذيبه لنص القرآن ، قال العلماء : قذف عائشة كفر ، لأن الله سبّح نفسه عند ذكره ، فقال ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون ، من الزوجة والولد .
الإكليل في استنباط التنزيل ( ص 190) .
فما سبق من الأقوال المتقدمة عن الأئمة والعلماء وأهل التفسير والحديث ، فيها بيان واضح ، ودليل ظاهر ، أن الأمة مجمعة على أن من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقذفها بما رماها به أهل الإفك ، فإنه كافر بالله ، لأنه مكذب له تبارك وتعالى فيما أخبر به من براءتها وطهارتها رضي الله عنها ، وأن عقوبته أن يقتل مرتداً عن ملة الإسلام .
ولا يحل لمسلم أن يقع في مثل ذلك أو ما يقاربه من التنقص أو الازدراء لهن بالقول أو الفعل .
فنسأل الله تعالى أن ينتقم ممن تعرض لنبيه صلى الله عليه وسلم بسوء ولأزواجه بشر ، ولعباده المؤمنين بأذى ، وهو القادر على ما يشاء وهو بكل شيء محيط ، وأن يحفظنا جميعا بحفظه ، ويطهر بلادنا من الفتن والبلايا والرزايا والمحن .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،،