حديث ” تسمع وتطيع “
حديث " تسمع وتطيع "
فقد سأل بعض الإخوة عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك " ما صحته ؟ فقد سمعت القرضاوي يضعف الحديث على قناة الجزيرة ؟ وماذا يراد به شرعا ؟ وما حكم من تعرض لظلم من قبل الحاكم ؟
الجواب :
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
وبعد :
فهذا الحديث صحيح ثابت عند أهل العلم بالحديث ، ودال على مذهب أهل السنة في هذا الباب ، من تحريم الخروج على الأئمة والولاة وإن ظلموا وجاروا .
والحديث المذكور رواه مسلم في صحيحه ( 3/1476) ، في كتاب الإمارة ، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين : وهو عن حذيفة رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله إنا كنا بشرٍ ، فجاء الله بخير ، فنحن فيه ، فهل من وراء هذا الخير شر ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " نعم " قلت : هل وراء ذلك الشر من خير ؟ ، قال : " نعم " قلت : كيف ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس " قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : " تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ، فاسمع وأطع ".
قال الإمام النووي : قال الدارقطني : هذا عندي مرسل ، لأن أبا سلام لم يسمع حذيفة . وهو كما قال الدارقطني ، لكن المتن صحيح متصل بالطريق الأول ، وإنما أتى مسلم بهذا متابعة كما ترى ، وقد بينا في الفصول وغيرها أن الحديث المرسل إذا روي من طريق آخر متصلاً ، تبينّا به صحة المرسل ، وجاز الاحتجاج به ، ويصير في المسألة حديثان صحيحان انتهى . (شرج مسلم 12/ 237-238) .
ويشهد له أيضا : حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اسمع وأطع في عسرك ويسرك ، ومنشطك ومكرهك ، وأثرة عليك ، وإن أكلوا مالك ، وضربوا ظهرك "رواه ابن حبان في صحيحه (4562- الإحسان ) .
ومثله حديث : ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كره من أميره شيئا فليصبر عليه ، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه ، إلا مات ميتة جاهلية " رواه مسلم في الإمارة ( 1849) وبوب عليه النووي : باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال ، وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة .
وغيرها من الأحاديث الكثيرة في معناه في هذا الباب .
أما الكلام على فقه هذه الأحاديث :
فعند النظر في اعتداء الحاكم على الرعية ، نجد أنه لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون اعتداؤه على الرعية في أنفسهم بما دون القتل ، كالضرب والجلد ، وأخذ المال وغير ذلك .
والحالة الثانية : أن يكون اعتداء الحاكم على نفس أحد من الرعية ، بالقتل والإهلاك وسفك الدم .
أما الحالة الأولى : فالحكم الشرعي هنا : هو وجوب الصبر على ذلك ، والسمع والطاعة ، وتحريم منازعة الحاكم في الإمامة ، أو الخروج عليه ، وقد جاء هذا الحكم منصوصاً عليه كما في حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم السابق .
فرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الرعية بالسمع والطاعة ، وإن ضرب الحاكم الظهر وجلد ، وأخذ المال ، وبين أن هذا الاعتداء بالضرب وأخذ المال ، لا يبيح للمسلم الخروج ، ونزع اليد من الطاعة .
وهذه أقوال علماء الأمة في ذلك :
قال الإمام الحافظ أبو العباس القرطبي رحمه الله : فأما قوله في حديث حذيفة : " اسمع وأطع ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك " فهذا أمر للمفعول به ذلك للاستسلام ، والانقياد وترك الخروج عليه مخافة أن يتفاقم الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك " المفهم ( 4/39 ) .
وقال العلامة صديق حسن خان رحمه الله : " وفيه دليل على وجوب طاعة الأمراء ، وإن بلغوا في العسف والجور إلى ضرب الرعية ، وأخذ أموالهم ، فيكون هذا مخصصاً لعموم قوله تعالى : ? فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ? [ البقرة : 194] وقوله سبحانه : ? وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ?[ الشورى : 40] انتهى .
وقال الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله أيضا : " فإن قال قائل : أيش الذي يحمل عندك قول عمر رضي الله عنه فيما قاله ؟ قيل له : يحتمل – والله أعلم – أن نقول : من أمر عليك من عربي أو غيره ، أسود أو أبيض أو عجمي ، فأطعه فيما ليس لله فيه معصية ، وإن حرمك حقا لك ، أو ضربك ظلما لك ، أو انتهك عرضك أو أخذ مالك فلا يحملن ذلك على أن تخرج عليه بسيفك حتى تقاتله ، ولا تخرج مع خارجي يقاتله ، ولا تحرض غيرك على الخروج عليه ، ولكن اصبر عليه " الشريعة ( 1/381 – 382 ) .
فدلت هذه النصوص السابقة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وأقوال سلف الأمة ، على أن الاعتداء من قبل الحاكم على النفس فيما دون القتل ، كالضرب والجلد وأخذ المال ، ليس عذرا لنزع اليد من الطاعة ، ولا مسوغا للخروج على الحكام ، أو تحريض الغير على الخروج ، فإن غاية هذا الاعتداء على النفس أن يكون معصية أو كبيرة من الكبائر ، والخروج على الحكام من شروطه الأساسية أن يرتكب الحاكم كفرا بواحاً ، عندنا فيه من الله برهان ، كما سيأتي تقرير ذلك .
لكن للمعتدَى عليه من الرعية عليه أن يستنفذ سبل الوقاية من هذا الاعتداء بطرق لا يكون فيها نوع من أنواع الخروج ، كالنّصح له ، وتبيين حرمة هذا الاعتداء ، أو طلب من يقوم بنصحه ، خاصة ممن يسمع منه كعالم جليل ، أو كبير من كبراء الناس ، وغيرهم من أصحاب الجاه .
* وأما الحالة الثانية لهذا الاعتداء وهي : ما لو كان اعتداء الحاكم على نفس أحد من الرعية بالقتل والإهلاك وسفك الدم .
ونقول : إن الاعتداء على النفس إما أن يكون من صائلٍ ظالم لا ولاية له ، وإما أن يكون من حاكم ظالم ، له جند وأتباع وحكومة ، والعلماء قد اختلفوا في وجوب دفع الصائل – غير الحاكم – إذا أراد النفس ، مع قولهم بجواز ذلك .
قال النووي رحمه الله : " وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف ، وفي المدافعة عن النفس بالقتل خلاف في مذهبنا ومذهب غيرنا " شرح صحيح مسلم ( 2/344) .
وقال ابن المنذر رحمه الله : " والذي عليه عوام أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله وأهله إذا أريد ظلماً ، لقوله عليه السلام : " من قتل دون ماله فهو شهيد " ، ولم يخص وقتا دون وقت ، ولا حالا دون حال ، إلا السلطان ، فإن كل من نحفظ عنهم من علماء الحديث ، كالمجمعين على أن من لم يمكنه أن يدفع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته ، إلا يفعل ، للآثار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصبر على ما يكون منه من الجور والظلم ، وترك القيام عليهم ما أقاموا الصلاة " كما في الفتح للحافظ ابن حجر ( 5/124) وفي سبل السلام ( 3/530) للصنعاني .
ومن تلكم الآثار النبوية أيضا ، والتي أمرت بالصبر على ما يكون من الولاة من جور وحيف وظلم :
ما جاء عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من خرج عن الطاعة ، وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهلية .. " .
والميتة الجاهلية هي صفة موت أهل الجاهلية ، حيث كانوا فوضى لا إمام لهم ، ولا راع يقودهم .
وعن أسيد بن حضير رضي الله عنه : أن رجلا من الأنصار خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألا تستعملني كما استعملت فلانا ؟ فقال : " إنكم ستلقون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " رواه البخاري (7/117) ومسلم ( 3/1474) باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم .
وما جاء عن سلمة بن يزيد الجعفي : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ، ويمنعونا حقنا ، فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه ، ثم سأله فأعرض عنه ، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسمعوا وأطيعوا ، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم " رواه مسلم في الموضع السابق ( 1846) .
أي : هم يجب عليهم أن ما كلفوا به من العدل ، وإعطاء كل ذي حق حقه من الرعية ، فإن لم يفعلوا فعليهم وزرهم ، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة ، ولكم في ذلك الأجر والمثوبة .
وغير ذلك من الأحاديث الناهية عن الخروج على الولاة ما أقاموا الصلاة ، والأحاديث المشترطة للخروج برؤية الكفر البواح ، أي : الكفر المعلن الظاهر ، الذي عندهم من الله تعالى فيه برهان ، ومع وجود القدرة على ذلك ، كما ذكر أهل شروط الخروج وضوابطه .
لكن لا حرج على المعتدى عليه أن يستنفد وسائل الدفع عن النفس بما هو دون المقاتلة والخروج ، كرفع أمره للقضاء ، أو كالإيعاز لأهل المكانة عند الحاكم بالشفاعة له في هذا الأمر ، أو توجيه النصح له للحاكم ، وبيان مغبة هذا الاعتداء في الدنيا والآخرة .
وله كذلك إن علم أو غلب على ظنه أن السلطان مريد لدمه ، وتوعد بقتله ، أن يهرب ويختفي عنه حفاظا على نفسه ، كما فعل عدد من السلف لما خافوا بطش الحجاج الظالم ، وهربوا من ظلمه وجبروته ، ومنهم الإمام الشعبي – رحمه الله – فإنه قد اختفى عن الحجاج أكثر من تسعة أشهر ، كما في طبقات ابن سعد (6/249 ) وكما فعل الإمام أحمد أيام الفتنة في زمن الواثق ، كما في سير أعلام النبلاء للذهبي ( 11/264 ) وغيرهم من السلف .
نسأل الله تعالى أن يقينا شر الفتن ، ما ظهر منها وما بطن
وأن يحفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين .
والحمد لله رب العالمين ،،،