ماذا بعد رمضان؟
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه ….
أما بعد :
فلئن كان شهر رمضان المبارك قد انتهى ، فإن عمل المسلم لا ينتهي ، إلا بمفارقة روحه بدنه ، قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( واعبدْ ربكَ حتى يأتيك اليقين) الحجر .
وقال عيسى عليه السلام عن ربه سبحانه ( وأوصَاني بالصلاةِ والزكاة ما دمتُ حياً ) مريم .
وقال صلى الله عليه وسلم : ” أحبُ الأعمالِ إلى الله تعالى ، أدومها وإنْ قلْ ” متفق عليه .
وذكر لبعض السلف أناساً يجتهدون في رمضان ، ثم يتركون ذلك بعده ، فقال : بئس القومُ لا يعرفون الله تعالى إلا في رمضان !!
فلئن كان صيام الفرض في رمضان قد انقضى زمنه ، فقد شرع الله تعالى للسابقين بالخيرات ، أياماً تصام طوال العام ، أولها صيام الست من شوال بعد رمضان ، ففي صحيح مسلم : من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” من صام رمضان ، ثم أتبعه ستاً من شوال ، كان كصيام الدهر ” .
وصيام الاثنين والخميس ، كما في حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” تُعرضُ الأعمال يوم الاثنين والخميس ، فأحبُ أن يُعرض عملي وأنا صائم ” رواه الترمذي .
وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والأولى والأحسن أن تكون أيام البيض وهي : الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر الهجري ، لحديث أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” يا أبا ذر، إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام ، فصُم ثلاثَ عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ” رواه الترمذي والنسائي .
وإلا صام أي ثلاثة أيام من الشهر، لحديث أبي هريرة : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث … وأن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر . رواه مسلم .
وصيام شهر الله الحرام ، ففي صحيح مسلم : عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الصيام أفضلُ بعد شهر رمضان ؟ قال : ” أفضلُ الصيام بعد شهر رمضان ، صيام شهر الله المحرم ” .
وصيام يوم عرفة ، فإنه يكفر سنتين: ماضية وباقية ، كما في صحيح مسلم . وصيام عاشوراء يكفر سنة ماضية ، وغيرها من صيام التطوع .
ولئن كان قيام رمضان قد انتهى ، فإن قيام الليل هو دأب الصالحين الأخيار دائماً ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ” عليكم بقيام الليل ، فإنه دأبُ الصالحين قبلكم ، وقربةٌ إلى الله تعالى ، ومنهاةٌ عن الإثم ، وتكفير للسيئات ، ومطردة للداء عن الجسد ” رواه أحمد والترمذي والحاكم عن بلال رضي الله عنه .
وقوله تعالى: ( تَتَجافى جُنوبُهم عن المضَاجع يدعون ربَّهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون ) السجدة .
وقوله: ( وعبادُ الرحمن الذين يمشون على الأرضِ هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً * والذين يبيتون لربهم سُجداً وقياماً ) الفرقان .
وقوله تعالى: ( كانوا قليلاً من الليلِ ما يَهجعون * وبالأسحارِ هم يستغفرون ) ليس خاصاً برمضان ، بل هي سمةٌ من سماتهم ، وصفة من صفاتهم .
ولما ذُكر عبد الله بن عمر للنبي صلى الله عليه وسلم قال : نِعمَ الرجل عبد الله ، لو كان يقوم من الليل ، فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً ، رواه البخاري .
وقال : لا تكن مثل فلان ! كان يقوم الليل فتركه .
وهذا يدل على أن ترك قيام شيء من الليل ، نقصٌ في إيمان الرجل وعمله ، وقيام الليل يتحقق ولو بركعتين بعد العشاء ثم يوتر بركعة ، وأفضله بعد شطر الليل ، أو في ثلثه الأخير.
ومن فضل القيام : ما رواه عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام” رواه الترمذي .
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى ترم قدماه ، وفي رواية : ساقاه ، رواهما البخاري .
ولئن كان رمضان هو شهر القرآن الذي أنزل فيه ، ويكثر فيه المسلمون من قراءته وسماعه في أيامه ولياليه ، فإن المؤمن لا يهجر كتاب الله تعالى في غير رمضان ، بل هو كتابه الأول يتلوه ليلاً ونهارا ً، سراً وجهارا ً، سفراً وحضراً ، لا يفارقه أبداً ، قال عز وجل: ( الذين آتيناهم الكتابَ يتلونه حقَّ تلاوته أولئك يُؤمنون به ) البقرة: 121 .
وقال سبحانه: ( إنّ الذين يتلونَ كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور) فاطر: 29.
وقد أثنى الله تعالى على طائفة من أهل الكتاب بقوله : ( من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) آل عمران : 113 .
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على قراءته ، ومعاهدة حفظه ، فقال : ” تَعاهدوا القُرآن ، فوالذي نفسي بيده ، لهو أشدُّ تفصّياً من الإبل في عُقلها ” متفق عليه .
ولئن كان رمضان هو شهر الزكاة لأكثر المسلمين ، فإن إنفاق المنفقين الخيرين لا ينقضي ولا ينتهي ، بل هو مستمر دائم ، كما قال الله عز وجل: ( الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سِراً وعلانية فلهم أجرُهم عند ربّهم ولا خوفَ عليهم ولا هم يحزنون ) البقرة : 274 .
وقال: ( والذين في أموالهم حقٌ معلوم * للسائل والمحروم ) المعارج : 25- 26 .
وهذا يدل على دوام إنفاقهم في كل وقت وحين ، وليس خاصاً بزمن دون زمن .
لأن الفقراء والمساكين حاجاتهم مستمرة ، فلا يغفل عنهم المسلم بقية العام .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس دوما ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، فهو صلى الله عليه وسلم كان جوده وكرمه صفة لازمة له ، بل كما وصفه أصحابه أنه ما سئل شيئاً قط ، فقال : لا .
وجوده كان بكل أنواع الجود ، بالمال وبالعلم وبالبدن وبالجاه .
ولئن كان شهر رمضان هو شهر إطعام الطعام للفقراء والأقرباء والجيران ، فينبغي أن يدوم ذلك ، كما قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر رضي الله عنه : ” يا أبا ذر، إذا طبختَ فأكثر المرق ، وتَعاهد جيرانك ” رواه مسلم .
وأخيرا : فالمسلم الحق : من يخاف من عدم قبول الأعمال ، كما قال تعالى ( إنما يتقبل الله من المتقين ) المائدة : 27.
وكان السلف يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ، وهؤلاء الذين قال الله فيهم ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) المؤمنون : 60 . أي : خائفة من عدم القبول .
وهذا من حذرهم أن يكون العمل فيه دغل ، كأن يكون لغير الله تعالى ، أو يكون فيه خللٌ أو نقص يوجب فساده .
ولا بد من العلم أن تكفير السيئات في رمضان ، مشروط بترك الكبائر من الذنوب ، كما قال عليه الصلاة والسلام : “الصلواتُ الخمس ، والجمعةُ إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفراتٌ لما بينهن ، إذا اجتُنبت الكبائر ” رواه مسلم .
فاللهم نسألك دوام فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا ، وتتوب علينا ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ،،،
يا سميع الدعاء ،،،
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..