الرد على المخالف وضوابطه وآدابه
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عُدوان إلا على الظالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
وبعد :
فالرد على المخالف ، أصلٌ من أصول أهل السُّنة والجماعة ، وعبادة عظيمة ، ومقام جليل في الشريعة ، وهو من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الله عز وجل ، الذي استحقّت به الأمة الإسلامية الخيرية على كل الأمم ، كما قال تعالى ( كنتم خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس تأمرونَ بالمعروف وتنهون عن المنكر ) آل عمران : 110.
ولولا الرد على المخالف ، لقال مَن شاء ما شاء ؟! كما قال السلف .
قال الامام الذهبي رحمه الله : ” فوالله ، لولا الحُفّاظُ الأكابر ، لخطبت الزَّنادقةُ على المنابر ” . سير أعلام النبلاء (82/11) .
لكن لا بد لمن أراد الدخول في هذه العبادة العظيمة ، من مراعاة الضوابط الشرعية لها ، المأخوذة من الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، وهدي سلفنا الصالح ، ومن تبعهم بإحسان ، والتي بينها أهل العلم ، وأئمة المسلمين .
وفيما يلي بيانٌ لأهم هذه الضوابط الشرعية ، والشروط المرعية :
أولا وثانيا : من شروط مَنْ يتصدّر للرد على المخالف : العلم والعدل ، وضدهما الجهل والظلم ؟!
فلا شك أنَّ الرد على المخالف ، يجب أنْ يكون بالعلم والعدل .
وهذان الشرطان ، من آكد ما يجب توفره في الراد على المخالف ، فالرد على المخالف كما قلنا عبادة عظيمة ، وهو من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر كما سبق ، والذي تكاثرت فيه النصوص من القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة .
ولذا يجب أنْ يضبط هذا الباب كما ذكرنا بــ”العلم ” و” العدل “..
فيكون الكلام والنقد ، قائماً ومبنياً على العلم بكل الوجوه : من العلم بخطأ المخالف ، وثبوت خطئه عليه ، ووقوفه على البيّنات التي تثبته ، والعلم بوجه الخطأ في قوله أو فعله..
ويتصف الرد بالعدل ، فلا يظلم في ردّه عليه ولا يتعدَّى ، ولا يقوّله ما لم يَقل ، ولا يُقوله لوازم قوله ، ونحو ذلك مما يدخل في العدل والإنصاف ..
هذا دأب السلف ومنهاجهم ، ومن يقف على أيِّ كتابٍ من كتبهم في الرد على المخالفين للحق ، من أهل الأهواء والبدع فضلاً عن غيرهم ، يتبيّن له ذلك .
وأيضاً : فإنّ مَنْ يرد على المخالف ، يجب أن يكون صادقاً في نُصرته للحق ، ورغبته في إصابته وموافقته حكم الله تعالى وشرعه ، وقد بلغ السلف من ” التّجرّد ” في ذلك ، وسلامة القلوب والصدور ، واستسلام النفوس للحق ، ما ضربوا به أروع الأمثلة في ذلك .
وما أحسن قال حاتم الأصم : معي ثلاثُ خصال ، أظهر بها على خصمي ، قالوا : ما هي؟ قال : أفرحُ إذا أصاب خصمي ، وأحْزن إذا أخطأ ، وأحفظ نفسي لا تتجاهل عليه ” . فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال : ” سبحان الله ! ما كان أعقله من رجل ” . المنتظم لابن الجوزي.
ولتأكيد اشتراط ” العلم ، والعدل ” في الرد على المخالف ، ولبيان أهميتهما ، ننقل بعض ما سطّره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه ، في بيان أهمية هذين الشرطين خاصة ، وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى من أكثر من ردّ على المخالفين من أهل الملّة ، أو من خارج الملة ، كما تدل كتبه ورسائله على ذلك .
فمن تلك النقول المهمة المفيدة :
1- ما قاله في الفتاوى (19/238) : ” ونحن نذكر قاعدةً جامعة في هذا الباب ، لهم ولسائر الأمة ، فنقول لا بدّ أنْ يكون مع الإنسان أصولٌ كلية ، يَرد إليها الجزئيات ، ليتكلم بعلمٍ وعدل ، ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت ، وإلا فيبقى في كذبٍ وجهل في الجزئيات ، وجهل وظلم في الكليات ، فيتولد فساد عظيم “.
الرد على المخالف وضوابطه وآدابه
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عُدوان إلا على الظالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
وبعد :
فالرد على المخالف ، أصلٌ من أصول أهل السُّنة والجماعة ، وعبادة عظيمة ، ومقام جليل في الشريعة ، وهو من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الله عز وجل ، الذي استحقّت به الأمة الإسلامية الخيرية على كل الأمم ، كما قال تعالى ( كنتم خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس تأمرونَ بالمعروف وتنهون عن المنكر ) آل عمران : 110.
ولولا الرد على المخالف ، لقال مَن شاء ما شاء ؟! كما قال السلف .
قال الامام الذهبي رحمه الله : ” فوالله ، لولا الحُفّاظُ الأكابر ، لخطبت الزَّنادقةُ على المنابر ” . سير أعلام النبلاء (82/11) .
لكن لا بد لمن أراد الدخول في هذه العبادة العظيمة ، من مراعاة الضوابط الشرعية لها ، المأخوذة من الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، وهدي سلفنا الصالح ، ومن تبعهم بإحسان ، والتي بينها أهل العلم ، وأئمة المسلمين .
وفيما يلي بيانٌ لأهم هذه الضوابط الشرعية ، والشروط المرعية :
أولا وثانيا : من شروط مَنْ يتصدّر للرد على المخالف : العلم والعدل ، وضدهما الجهل والظلم ؟!
فلا شك أنَّ الرد على المخالف ، يجب أنْ يكون بالعلم والعدل .
وهذان الشرطان ، من آكد ما يجب توفره في الراد على المخالف ، فالرد على المخالف كما قلنا عبادة عظيمة ، وهو من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر كما سبق ، والذي تكاثرت فيه النصوص من القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة .
ولذا يجب أنْ يضبط هذا الباب كما ذكرنا بــ”العلم ” و” العدل “..
فيكون الكلام والنقد ، قائماً ومبنياً على العلم بكل الوجوه : من العلم بخطأ المخالف ، وثبوت خطئه عليه ، ووقوفه على البيّنات التي تثبته ، والعلم بوجه الخطأ في قوله أو فعله..
ويتصف الرد بالعدل ، فلا يظلم في ردّه عليه ولا يتعدَّى ، ولا يقوّله ما لم يَقل ، ولا يُقوله لوازم قوله ، ونحو ذلك مما يدخل في العدل والإنصاف ..
هذا دأب السلف ومنهاجهم ، ومن يقف على أيِّ كتابٍ من كتبهم في الرد على المخالفين للحق ، من أهل الأهواء والبدع فضلاً عن غيرهم ، يتبيّن له ذلك .
وأيضاً : فإنّ مَنْ يرد على المخالف ، يجب أن يكون صادقاً في نُصرته للحق ، ورغبته في إصابته وموافقته حكم الله تعالى وشرعه ، وقد بلغ السلف من ” التّجرّد ” في ذلك ، وسلامة القلوب والصدور ، واستسلام النفوس للحق ، ما ضربوا به أروع الأمثلة في ذلك .
وما أحسن قال حاتم الأصم : معي ثلاثُ خصال ، أظهر بها على خصمي ، قالوا : ما هي؟ قال : أفرحُ إذا أصاب خصمي ، وأحْزن إذا أخطأ ، وأحفظ نفسي لا تتجاهل عليه ” . فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال : ” سبحان الله ! ما كان أعقله من رجل ” . المنتظم لابن الجوزي.
ولتأكيد اشتراط ” العلم ، والعدل ” في الرد على المخالف ، ولبيان أهميتهما ، ننقل بعض ما سطّره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه ، في بيان أهمية هذين الشرطين خاصة ، وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى من أكثر من ردّ على المخالفين من أهل الملّة ، أو من خارج الملة ، كما تدل كتبه ورسائله على ذلك .
فمن تلك النقول المهمة المفيدة :
1- ما قاله في الفتاوى (19/238) : ” ونحن نذكر قاعدةً جامعة في هذا الباب ، لهم ولسائر الأمة ، فنقول لا بدّ أنْ يكون مع الإنسان أصولٌ كلية ، يَرد إليها الجزئيات ، ليتكلم بعلمٍ وعدل ، ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت ، وإلا فيبقى في كذبٍ وجهل في الجزئيات ، وجهل وظلم في الكليات ، فيتولد فساد عظيم “.
2- وفي منهاج السنة ( 5/79 ) يبين أهمية العلم والعدل ، ويوضح خطورة الجهل والظلم ، في هذا الباب بقوله :
” ومعلوم أنا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة ، مثل الملوك المختلفين على المُلْك ، والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين ، وجب أنْ يكون الكلام بعلم وعدل ، لا بجهلٍ وظلم ، فإنَّ العدل واجبٌ لكلّ أحدٍ على كل أحد ، في كل حال ، والظلم محرمٌ مطلقاً ، لا يباح قط بحال ، قال تعالى ( ولا يجرمنَّكم شنآن قوم على ألا تعْدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) سورة المائدة : 8. وهذه الآية : نزلت بسبب بغضهم للكفار ، وهو بغضٌ مأمورٌ به ، فإذا كان البغض الذي أمر الله به ، قد نهى صاحبه أنْ يظلم من أبغضه ، فكيف في بغض مسلمٍ بتأويل وشبهة ؟ أو بهوى نفس ؟ فهو أحقّ أنْ لا يُظلم بل يعدل عليه ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ من عدل عليهم ، في القول والعمل ، والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ، ومحبته والثناء على أهله ، ومحبتهم ، والظلم مما اتفقوا على بغضه ، وذمه وتقبيحه ، وذمّ أهله وبغضهم “.
3- وفي منهاج السنة ( 5/86 ) يوضح هذه المسألة أكثر فيقول : ” والمقصود هنا أنه إذا وجب فيما شَجَر بين عموم المؤمنين ، أن لا يتكلم إلا بعلمٍ وعدل ، ويُرد ذلك إلى الله والرسول ، فذاك في أمر الصحابة أظهر ، فلو طعن طاعنٌ في بعض ولاة الأمور ، من ملكٍ وحاكم وأمير وشيخ ونحو ذلك ، وجعله كافراً ، معتديا على غيره في ولاية أو غيرها ، وجعل غيره هو العالم العادل ، المبرّأ من كلّ خطأٍ وذنب ، وجعل كل مَن أحبّ الأول وتولّاه كافراً ؟! أو ظالما مستحقاً للسبِّ ، وأخذ يسبه ، فإنه يجب الكلام في ذلك بعلم وعدل “.
4 – وأيضا : في منهاج السنة ( 5/85 ) يُوضح أنّ العلم يكون في الرجوع للكتاب والسنة ، ويشير إلى خطورة بناء بعض المسائل على تقرير علماء أو شيوخ واجتهادهم ، دون أنْ يكون لهم أدلة من الكتاب أو السنة ، فيقول : ” فالأمور المشتركة بين الأمة ، لا يَحكم فيها إلا الكتاب والسنة ، ليس لأحدٍ أنْ يلزم الناس بقول عالمٍ ، ولا أمير ، ولا شيخ ، ولا ملك ” .
5 – وفي درء تعارض العقل والنقل ( 4/298 ) يسهب موضّحاً ضرورة التزام العلم والعدل في الرد ، فيقول : ” وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بيّنه الله وسوله مأمورٌ به ، وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه ، وأما الكلام بلا علم فيذم ، ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم ، وقد يتكلم بما يظنه علما ً: إما برأي رآه ، وإما بنقل بلغه ، ويكون كلاماً بلا علم ، وهذا قد يعذر صاحبه تارة وإنْ لم يتبع ، وقد يذم صاحبه إذا ظلم غيره ، وردّ الحق الذي معه بغياً ، كما ذم الله ذلك بقوله : ( وما اختلفَ الذين أُوتوا الكتابَ إلا منْ بعد ما جاءَهم العلمُ بغياً بينهم ) آل عمران : 19 .
فالبغي مذمومٌ مطلقاً ، سواءً كان في أنْ يلزم الإنسان الناس بما لا يلزمهم ، ويذمهم على تركه ، أو بأنْ يذمّهم على ما هم معذورون فيه ، والله يغفر لهم خطأهم فيه ، فمن ذمّ الناس وعاقبهم على ما لم يذمهم الله تعالى ، ويعاقبهم ، فقد بغى عليهم ، لا سيما إذا كان ذلك لأجل هواه .
وقد قال تعالى : ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) ص : 26.
والله تعالى قد قال: ( وحَملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاً * ليُعذب الله المُنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات ) الأحزاب :72-73 .
فالسعيد من تاب الله عليه من جهله وظلمه ، وإلا فالإنسان ظلومٌ جهولٌ ، وإذا وقع الظلم والجهل في الأمور العامة الكبار ، أوجبت بين الناس العداوة والبغضاء ، فعلى الإنسان أنْ يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس ، فإنَّ الحكم بالعلم والعدل في ذلك ، أولى منه في الأمور الصغار .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” القضاةُ ثلاثة : قاضيان في النار ، وقاضٍ في الجنة : رجلٌ عَلِم الحقَّ وقضى به ، فهو في الجنة ، ورجلٌ قضى للناس على جهلٍ فهو في النار ، ورجلٌ عَلِم الحق وقضى بخلافه ، فهو في النار “.( أبوداود )
فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهمٍ وثوب ، فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين ؟! وخلقه وأمره وعده ووعيده؟! “.انتهى
– ويبين القرافي وجوب إبراز مفاسد كتب المبتدعة وأحوالهم بالإنصاف ، فيقول : “ويُنفَّر عن تلك المفاسد ما أمكن ، بشرط ألا يتعدّى فيها الصدق , ولا يفتري على أهلها من الفسوق والفواحش ما لم يفعلوه ، بل يقتصر على ما فيهم من المنفرات خاصة ، فلا يقال على المبتدع : إنه يشرب الخمر , ولا أنه يزني , ولا غير ذلك مما ليس فيه “.
* ومن العدل والإنصاف : أن لا نجحد ما للعالم أو الشيخ من فضل وعلم , وأن يعذر من أخطأ بجهل أو بتأويل ، وألا تفرح وتطير بخطأه إذا أخطا ، كما لو أذنب فلا تفرح بذنبه .
– يقول الإمام ابن القيم : “ومن له علم بالشرع والواقع ، يعلم قطعاً أنَّ الرجل الجليل ، الذي له في الإسلام قدم صالح, وآثار حسنة ، وهو من الإسلام وأهله بمكان , قد تكون منه الهفوة والزلة , هو فيها معذور , بل ومأجور لاجتهاده , فلا يجوز أن يتبع فيها , ولا يجوز أنْ تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين”.
– ويقول أيضاً في وصف المنصف : “يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر حتى كأنه هو الذي عثر بها , ولا يشمت به”.
– ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : “ومعلوم أنَّ شر الكفار والمرتدين والخوارج ، أعظم من شر الظالم , وأما إذا لم يكونوا ـ أي المبتدعون أو غيرهم ـ يظلمون المسلمين , والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم ، فهذا عدوان منه فلا يُعاون على عدوان “.
– ويقول ابن تيمية ردّاً على بعض أهل الكلام حين ذم أهل الحديث بقلة الفهم ، وعدم التمييز بين صحيح الحديث من ضعيفه : ” لا ريب أنَّ هذا موجود في بعضهم , يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول , وآثار مفتعلة , وحكايات غير صحيحة, ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه ، وقد رأيت من هذا عجائب , لكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك ، كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل , فكل شرٍّ في بعض المسلمين ، فهو في غيرهم أكثر , وكل خيرٍ يكون في غيرهم فهو فيهم أعظم , وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم “. كتاب علم الحديث ( 44 ) .
وإذا تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها ، فقد تكلف هؤلاء من القول بغير علم ، ما هو أعظم من ذلك وأخطر .
– ويقول أيضاً : ” كثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف ، قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة , ولم يعلموا أنه بدعة , إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة , وإما لآياتٍ فهموا منها ما لم يُرد منها , وإما لرأي رأوه ، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم “.
– ويقول الشوكاني : “دع عنك ما يقع من الاختلاف في المذاهب والمعتقدات , فإنه يبلغ الأمر إلى عداوة فوق عداوة أهل الملل المختلفة , فطالب الإنصاف لا يلتفت إلى شيء مما يقع من الجرح والتعديل بالمذاهب والنحل “.
– ويقول العلامة السعدي في تفسير قوله تعالى: ( إذا اكتالُوا على الناس يَسْتوفون * وإذا كالُوهم أو وزنوهم يُخسرون ) المطففين : 2- 3 : ” يدخل في عموم هذا : الحجج والمقالات فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد منهما يحرص على ما له من الحجج , فيجب عليه أيضاً أنْ يبين ما لخصمه من الحجة التي لا يعلمها , وأنْ ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو , وفي هذا الموضع يُعْرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه ، وتواضعه من كبره ، وعقله من سفهه “.
– ويقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله : ” التزام الإنصاف الأدبي ، بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل , وإذا أذنب فلا تفرح بذنبه , ولا تتخذ الوقائع العارضة مُنهية لحال الشخص , وباتخاذها رصيداً ينفق منه الجرّاح في الثلب , والطعن وأن تدعو له بالهداية , أما التزيد عليه ، وأما البحث عن هفواته , وتصيدها فذنوب مضافة أخرى .
والرسوخ في الإنصاف ، بحاجة إلى قَدْرٍ كبيرٍ من خُلق رفيع ، ودين متين “.
ثالثا : من الضوابط العظيمة لدى علماء السلف في الرد على المخالف : الاعتماد على الدليل الشرعي ، والبرهان العقلي ، والفطري السليم ، والتحاكم إليها .
قال تعالى : ( فإنْ تنازعتم في شيءٍ فردُّوه إلى الله والرسول إنْ كنتم تُؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا )النساء : 59 .
وقال سبحانه : (فلا وربّك لا يُؤمنون حتى يُحكموك فيما شَجَر بينهم ثم لا يَجدوا في أنفسهم حَرَجاً مما قضيتَ ويسلموا تسليما ) النساء : 65 .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” تركتُ فيكم أمرين ، لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنتي “. رواه الدارقطني والحاكم .
* ومن الأمثلة على ذلك من فعل الصحابة :
في قصة موت الرسول صلى الله عليه وسلم وقول عمر رضي الله عنه : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خروج أبي بكر رضي الله عنه للناس وقوله : ألا مَن كان يعبد محمداً ، فإنَّ محمداً قد مات ، ومَنْ كان يعبد الله ، فإن الله حيٌ لا يموت ، وقرأ (إنك ميت وإنهم ميتون ) الزمر: 30 . وغيرها من الآيات ، فَنَشج الناس يبكون”.
4- موقف ابن عباس من الخوارج وجدالهم ، حيث قال لهم : “أرأيتكم إنْ أتيتكم من كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ما ينقض قولكم ، أترجعون ؟ … ” .
5- ما ثبت عن الأئمة الأربعة جميعاً من قولهم : إذا وجدتم في كتابي خلاف سُنة رسول الله ، فقولوا بها ، ودعوا ما قلته .
* ومما قد ورد من نقول كثيرة عن العلماء في هذا الباب :
1- يقول الحافظ ابن الجوزى في ” تلبيس أبليس ” (1/152 ) : “والله يعلم أننا لم نقصد ببيان غلط الغالط ، إلا تنزيه الشريعة ، والغَيرة عليها من الدَّخَل ، وما علينا من القائل والفاعل ، وإنما نُؤدي بذلك أمانة العلم ، وما زال العلماء يُبين كل واحدٍ منهم غلط صاحبه ، قصداً لبيان الحق لا لإظهار عيب الغالط ، ولا اعتبار بقول جاهلٍ يقول : كيف يُرد على فلانٍ الزاهد المتبرك به ، لأنَّ الانقياد إنما يكون إلى ما جاءت به الشريعة ، لا إلى الأشخاص ، وقد يكون الرجل من الأولياء ، وأهل الجنة ، وله غلطات ، فلا تمنع منزلته بيان زلله ” .
2- ويقول الحافظ ابن رجب فى كتابه “الفرق بين النصيحة والتعبير” ( ص11 ) :” قد يظن مَن لا يعلم من الناس ، ولا يضع الأمور مواضعها : أن هذا اغتيابٌ للعلماء ، وطعن فى السلف ، وذكر للموتى ؟!
وليس ذلك كما ظنوا ؟! لأنَّ الغيبة سبُّ الناس بلئيم الأخلاق ، وذكرهم بالفواحش والشائنات ، وهذا من الأمر العظيم المشبه بأكل اللحوم الميتة .
فأما هفوة فى حرفٍ ، أوزلة فى معنى ، أو اغفال أو وهم أو نسيان ، فمعاذ الله أن يكون هذا من هذا الباب ؟! أو أن يكون له مشاكلاً أو مقاربا ، أو يكون المنبه عليه آثماً ، بل يكون مأجورا عند الله ، مشكوراً عند عباده الصالحين الذين لا يميل بهم هوى ، ولاتداخلهم عصبية ، ولا يجمعهم على الباطل تحزبٌ ، ولايلفتهم عن استبانة الحق حسد .
وقد كنا زماناً نعتذر فيه عن الجهل ، فقد صرنا الأن نحتاج الأعتذار من العلم ، وكنا نؤمّل شكر الناس بالتنبيه ، والدلالة فصرنا نرضى بالسلامة ؟! وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال ولاينكر مع تغير الزمان ، وفى الله خلف وهو المستعان”
هكذا يتألم الحافظ ابن رجب من حال أهل زمانه ، وما حمل بعض الناس على التعصب لأئمتهم .
ويقول ابن سعدي رحمه الله في تفسير ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) مبيناً معنى العدل في القول : “بمراعاة الصدق فيمن تحبون , ومن تكرهون , والإنصاف وعدم كتمان ما يلزم بيانه , فإنَّ الميل على من تكره بالكلام فيه ، أو في مقالته ، من الظلم المحرم , بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع : فالواجب عليه أنْ يعطي كل ذي حق حقه , وأنْ يبين ما فيها من الحق والباطل , ويعتبر قربها من الحق وبعدها منه”.
رحم الله تعالى سلفنا الصالحين ، ومن سلك طريقهم ، واقتدى بهم ، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وتلاميذهم وأصحابهم ، ومن جاء بعدهم ممن اقتدى بهم ، كالإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب وأبناؤه وأحفادوه وتلاميذه ، ومن تبعهم ، من علماء هذا الزمان كالإمام ابن باز وابن عثيمين وإخوانهم ، وعلامة الشام الألباني ، وعلامة مصر أحمد شاكر ، وغيرهم كثير يعجز القلم عن حصرهم ، رحمهم الله ورفع درجتهم ، فقد كانوا أهل علم وعدل ، وهذه ردودهم المطبوعة والمنشورة ، بفضل الله عز وجل ، كانت على السبيل الأقوم ، والطريق الأسلم ، تبين الحق ، وترحم الخلق ، وقد ورَّثونا تراثاً عظيماً في هذا الباب العظيم ، أستفادوه من الكتاب العزيز ، والسُنة النبوية ، وآثار الصحب الكرام ، والتابعين لهم بإحسان ، فحُقَّ علينا أنْ نتأسى بهم وبالسلف الصالحين ، فإنَّ منهاجهم هو الأسْلم والأعْلم والأحكم .
ومَن كان مستناً فليستن بمن قد مات ، فإنَّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة .
نسأل الله الهدى والسداد ، والتوفيق والرشاد ، في القول والعمل ، إنه سميع مجيب .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم