لقاء مع مجلــة الفرقـــان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شيخنا بارك الله فيكم ..
هذه بعض الأسئلة نرجو التكرم بالإجابة عليها لنشرها بمجلة الفرقان في حوار خاص معكم للمجلة سيكون ملف العدد إن شاء الله .
1•هل حدث تراجع في العمل التربوي الدعوي في السنوات الأخيرة؟ وما هي الأسباب الفعلية لذلك؟
الجواب :
الحمدَ لله ، نَحمده ونسْتعينه ونستغفره ، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسِنا ، ومنْ سيئات أعمالنا ، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له ، ومنْ يُضلل فلا هاديَ له ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبدُه و رسولُه .
وبعد :
لا يجادل أحدٌ اليوم في أنّ هناك أزمة في التربية والأخلاق تجتاح الأمة الإسلامية ، وتغير في معالم الشخصية المسلمة ، وهو ما يدعو لاهتمام العلماء والدعاة والوعّاظ ، والمربين من المعلمين والآباء والأمهات ، وتدعو بالحاح الى علاجها وتأمل أسبابها .
والتربية الاسلامية هي بناء هذا الإنسان ، وتنمية جميع جوانب الشخصية الإسلامية فيه ، العقلية والخُلقية والعاطفية والجسدية والاجتماعية ، وتوجيه سلوكه وأخلاقه على أساس مبادئ الاسلام وتعاليمه السامية ، بغرض تحقيق أهداف وجود هذا الإنسان في هذه الدنيا .
فالتربية الاسلامية إذن : هي النظام التربوي الرباني القائم على الإسلام الصحيح ، بمعناه الكامل والشامل ، المستقى من الكتاب الكريم ، والسنة النبوية ، وبفهم سلف الأمة .
والتربية على الأخلاق الفاضلة ، وتعليم الناس الخير ، هي مسؤولية العلماء والخطباء والدعاة إلى الله تعالى أولاً ، فهي مدار بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؛ حيث قال الله تعالى : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ويُعلّمهم الكتابَ والحكمة وإنْ كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين ) الجمعة : 2.
فقوله ( ويُزكيهم ) التزكية هي التربية الإيمانية ، وهي أسمى ما يُربى عليه الفرد والجماعة ، بتحقيق العبودية لله رب العالمين ، وإخلاص العبادة له ، والسلامة من الشرك .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : “ويزكيهم : يطهرهم من رذائل الأخلاق ، ودنس النفوس ، وأفعال الجاهلية ” .
وهو أول ما يجب على الوالدين ، حيث هما المحضن الأول للناشئة ، والمدرسة الأولى للطفل ، وعندهما يتعلم مبادئ العقيدة وأصول الأخلاق .
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما مِنْ مولودٍ إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنْصرانه أو يُمَجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تُحسون فيها من جدعاء ، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه ( فطرةَ الله التي فَطَر الناسَ عليها لا تبديل لخَلق الله ذلك الدين القيم ) الروم .
فقد دل هذا الحديث على أنّ الأصل في كلّ مولودٍ أنه يولد مسلماً موحّدا ، وأنّ التهود أو التنصر أو التمجس أمرٌ طارئ على أصل الفطرة ، قال الحافظ ابن حجر كما في فتح الباري : الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه ، بل إنما حصل بسببٍ خارجي ، فإنْ سَلِم من ذلك السبب ؛ استمر على الحق . انتهى
فالطفل متهيأ للتوحيد خلقةً ، والاستقامة على دين الله تعالى ، واتباع رسله .
ولهذا يجب على المسلم العناية بالأهل والأولاد ، وتوجيههم لما يُصلحهم كما أمرنا الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) التحريم : 6.
قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى ( قوا أنفسكم وأهليكم نارا ) : أدّبوهم وعلّموهم .
وروى أبو داود : عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أَبيه عن جده قال : قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : ” مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاة وهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سنِينَ ، واضْرِبُوهُمْ عليها وهُم أَبْناءُ عَشْرٍ ، وفَرِّقُوا بيْنَهم في المضَاجِعِ ” .
وهذه التربية والتعليم للأهل والولد ؛ أمانة يُسأل عنها الناس يوم القيامة ، فعن ابن عمر رضي الله عنه ما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” كلُّكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته : الإمام راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته ، والمرأة راعيةٌ في بيتِ زوجها ومسئولة عن رعيتها ، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئولٌ عن رعيته ، فكلكم راع ومسئولٌ عن رعيته ” . متفق عليه
فالتربية إذن عملية ضرورية لكل من الفرد والمجتمع معا ، فضرورتها للإنسان الفرد تكون للمحافظة على بدنه وقلبه وروحه ، وتوجيه غرائزه ، وتنظيم عواطفه ، وتنمية ميوله بما يتناسب ودينه وأخلاق أمته العظيمة ، فالإسلام يسعى إلى إعداد الفرد وتكوينه ليكون عضواً نافعاً ، وإنساناً صالحاً في الحياة .
والتربية أيضاً ضرورية لمواجهة الحياة المعاصرة اليوم بما فيها من انحرافات فكرية وعقائدية وأخلاقية ، ولا بد أنْ نعلم أن تنظيم السلوكيات العامة في المجتمع ، فرع من تربية الفرد في البيت والمدرسة .
لذا اهتم العلماء المسلمون بفضية تربية الأولاد ، ويتضح ذلك أيضاً من خلال ما دونوه في مؤلفاتهم وكتبهم مما يتعلق بأخلاق العالم والمتعلم ، وأهمية التربية في القرآن والسنة ، أو بيان أساليبها المتنوعة ووسائلها أو ثمراتها .
2•ما أهم الدروس المستفادة من تجربتكم في العمل الدعوي ، خلال الحقبة الماضية ؟
الجواب :
الدعوة إلى الله تعالى مدرسة عظيمة ، يتعلم فيها المسلم دروساً شتى في الدّين والحياة ، ويتعرف فيها على أحوال الناس وأخلاقهم على اختلاف أصنافهم وأجناسهم وطبائعهم .
ومن الأمور التي تعلمناها في هذا المجال : أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله ، وعظيمُ نفعِها لمن حباه الله تبارك وتعالى بها ، ومَنَّ عليه بتحصيلِها ، لا سيما الدعاة إلى الله ، فالدعوة لا تستقيم إلا بها ، فالله تعالى يقول : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) النحل : 125.
فيأمر الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أنْ يدعو الخلق – مسلمهم وكافرهم – إلى سبيل ربه المستقيم ، المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح ، ( بِالْحِكْمَةِ ) قال العلماء : الحكمة : هي وضعُ الأمور في مواضعِها ، وقيل: هي البَصيرة والفَهم والسَّداد ، وقال بعضهم : هي ما أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام من الكتاب والسنة . فيكون معنى الآية : فلتكن دعؤتك للخلق بِالْحِكْمَةِ ، أي بالعلم الشرعي المستفاد من القرآن والسنة النبوية ، لا بالجهل ومجرد العاطفة ، وكذلك بما يناسب أحوال الناس ودرجاتهم ، كل على حسب حاله وفهمه وانقياده .
ومن الحكمة :البداءة بالأهم فالأهم من الأمور ، وبالأقرب إلى الفهم من الصعب ، وبالأقرب منك من الناس من الأقارب قبل الأباعد ، وبالرفق واللين ، لا بالعنف والشدّة .
فالشَّاهد أنَّ الحكمةَ لها مكانةٌ عظيمةٌ في الدين والدعوة ، وينبغي على كلِّ عبدٍ أنْ يجدَّ ويجتهدَ في نَيلها وتحصيلِها وتعلّمها ، بالسُّبل المشروعة الَّتي تُنال بها الحكمة .
فإنْ انقاد الإنسان المَدْعو بالحِكمة ، وإلا فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة ، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب ، وبالزواجر والوقائع التي حصلت للناس على مرِّ الدهر ، فيذكّرهم بها . وكذلك التذكير بما تشتمل عليه الأوامر الشرعية من المصالح العظيمة وتِعدادها ، وما في النواهي والمحرّمات من المضار المهلكة وتعدادها .
وهذا من أساليب التربية العظيمة ، والمؤثرة في الناس ، وهي من أساليب القرآن .
وقوله : ( وجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي : مَن احتاج منهم إلى المناظرة والجدال ؛ لوجود شبهات عنده ، فليكن الجدال معه بالوجه الحسن ، لا بالخطاب الخشن ، أي : تناظر برفق ولين وحُسن خطاب ، كما قال : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) العنكبوت : 46 . فأمره تعالى بلين الجانب مع الكفار فكيف بالمسلمين ، كما أمر الله موسى وهارون عليهما السلام ، حين بعثهما إلى فرعون فقال : ( فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) طه : 44.
*ومما استفدناه من علمائنا ومشايخنا في مجال الدعوة : أهميَّة التَّودُّد للناس والتقرّب منهم ، وعظيم أثره على المتلقِّي والمتعلِّم والمَدعو .
فأنت عندما تُريد أن تَعِظ إنسانًا وتنصحه وتدعوه ، ينبغي لك أنْ تتودَّدَ إليه بالكلام ، ما معنى أن تتودّد إليه ؟ يعني تذكُر له مِن العبارات اللَّطيفة ، والكلام الجميل ما يجعل كلامَك يدخُلُ إلى قلبَه ، ويجعلُه يقبل عليك ويستمع لنُصحك .
ولاحظ خطاب لقمان الحكيم وقد مدحه بأنَّ الله عزَّ وجلَّ آتاه الله الحكمةَ ؛ وهو يعظ ابنَه ، كما في قول الله تبارك وتعالى : ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ) لقمان ، فقد جاء بكلام لطيف ، وأسلوبٍ مؤثِّرٍ ، وكلماتِ تدخُل إلى القَلب ، وانظُر لطفَه في حديثِه مع ابنِه في وعظه ، بتكرير عبارة ” يا بُنَي ! يا بُني ! يا بُني ! ” في السِّياق ؛ فهذه لها وقع في قلب الابن ، ولها تأثيرٌ في تفبل قلبه للخير والنصح .
وكذلك الأمر لو نظرنا إلى دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه ، بتكرار قوله له : ” يا أبت ! يا أبت !” كما في سورة مريم .
وهكذا كانت دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإنهم كانوا يخاطبون أقوامهم بقولهم : يا قوم أي يا أهلي .
وكذلك لاحظ حُسن التَّودُّد عند نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم ، يقول مُعاذ بن جبل رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيدهِ يوما ، ثُمَّ قال : ” يا مُعَاذُ ! إِنِّي لَأُحِبُّكَ “؛ فقال له مُعَاذٌ : بأَبي أَنتَ وأُمِّي يارسولَ الله ، وأَنَا أُحِبُّكَ ؛ قال : “أُوصِيكَ يا مُعاذُ ! لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صلَاةٍ ؛ أَنْ تقول : اللَّهُمَّ أَعِنِّي على ذِكْرِكَ ، وشُكْرِكَ ، وحُسْنِ عبادِتكَ ” . رواه أبو داود . والأمثلة في سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا .
3•أيهما أنفع لطالب العلم : الاطلاع على جميع العلوم أم التخصص؟
الجواب :
طلب العلم من أعظم القربات ، والفضائل الواردة فيه كثيرة في القرآن والسنة ، وهو من العبادات العظيمة ، بل هو أفضل من نوافل الصلاة والصيام .
وهو نوعان :-
النوع الأول : فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة : وهو ما يحتاجه الإنسان في معاملته لربه ، ومن ذلك : تعلم العقيدة والتوحيد وأركان الإيمان ولو إجمالاً ، وكذا تعلم أحكام الإسلام والفرائض كالصلاة والصيام والزكاة – لمن عنده مال يزكيه – والحج لمن أراد أن يحج ، ونحو ذلك من العبادات .
وكذلك منه : ما يجب معرفته في معاملته للناس ، من الأبوين والأرحام والزوجة والولد والأصجاب والجيران ، ومنه : تعلم أحكام البيع والشراء بقدر حاجته له ، وكذا تعلم أحكام النكاح والطلاق والحقوق الزوجية والأولاد ، وكذا أحكام الأطعمة والأشربة والألبسة وغيرها من الأبواب الضرورية .
والنوع الثاني من العلم : فرض كفاية :
وهو التخصص في العلوم الشرعية والتبحر فيها ، كحفظ القرآن والسنة ، وتعلم التفسير والحديث ، والفقه وأصول الفقه ، والنحو وألعربية ، وغير ذلك من العلوم الشرعية ,
وكذلك العلوم الدنيوية كالطب والهندسة وعلوم الصناعات الحربية وغيرها مما تحتاجة الأمة ، هي من فروض الكفايات .
وما من علم من علوم الشريعة المباركة ؛ إلا والأمة محتاجة إليه ، على تفاوت في ذلك من حينٍ لآخر ، ومن بلد لآخر ، وهناك مجالات كثيرة تحتاج إلى مَنْ يُتقنها أفراد من المسلمين ، ويبذل وسعه في تعلمها وتعليم الناس إياها ، كالقرآن وعلومه ، والعقيدة وتفصيل مسائلها ، والفقه وما يتعلق به من أصول وقواعد .
والذي ننصح به الطلاب أنْ يُلم بالأصول من كل علم أولاً ، ثم يتخصص في المجال الذي يفتح الله عليه فيه ، من حيث الفهم والتحصيل والميول له والرغية فيه .
4•ظاهرة الهجوم على العلماء وبيان أخطاؤهم ما أسبابها ؟ وكيف يمكن الحد منها ؟
الجواب :
نعم إنّها سنّةٌ من سنن الله الماضية ، لكلّ من سَلك سبيل الأنبياءِ والرّسل ، واقتفى آثارهم ؛ بل قد حوى القرآن الكريم الأخبار الكثيرة مِن قَصَصِ الرّسل مع أممِهم ، وما نالهم منهم مِن الأذى باللسان ، والوصف بأبشع الأوصاف من اتهامهم بالكذب والجنون والرغبة في الملك والسيادة وغيرها من الاتهامات الباطلة .
فلا غرابة أن يَظهر لمثل هؤلاء العلماء الأعلام الأفذاذ ، مَن يغمِسون ألسنتَهم في أعراضهم ، ويبسطونها بإصدار الأحكامِ عليهم جزافاً دون علم ، والتّشكيكِ فيهم ، وإلصاقِ التّهم بهم ، وطمسِ محاسنهم ، والتّشهير بزلاّتِهم الّتي لا يَسلَم منها عالم ، ولا شكّ أنّ هذا من سنن الله عزّ وجلّ الّتي قدّرها على أهلِ الحقّ إلى يومِ الدّين ، فإنهم يُبتلون ويُمتحنون ، فيَصبرون ويُبدلهم الله على ذلك رِفعةً في الأرض وتمكينًا ، قال الله عزّ وجلّ لنبيّه عليه الصلاة والسّلام : ( ما يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) .
ومِن باب حِفظ كرامة العالم ، والذَبِّ عن عِرضه وتعظيم حُرمته ، يتحتّم علينا معاشر المسلمين أنْ نفي بحقِّ علمائِنا ، ونردّ شيئًا مِن جميلهم ، بالعملِ على دَفعِ ما مِن شأنه أنْ يخدِشَ كرامتَهُم ، أو يَنتهِك حُرمتَهُم ، أو ينتقِصَ من عِرضَهُم ، أو يُقلِّل من شأنَهُم ؛ ونَدفع الشّبهةَ بالدَّليل ، والظَنّ باليقين ، والجهل بالعِلم ، مُحتسبين في كلّ هذا عظيمَ الأجر .
وقد يظن بعض من لا يعلم من الناس ؛ أن الرد على من خالف في مسألة علمية عقدية أة فقهية أو غيرها ؛ أن هذا اغتياب للعلماء وطعن فىهم ؟! وليس ذلك كما ظنوا لأن الغيبة سب الناس ؛ أو وصفهم بالأخلاق الرديئة ، وذكرهم بالفواحش . قال الحافظ اين رجب رحمه الله في كتابه : ” الفرق بين النصيحة والتعيير ” : فأما هفوة فى حرف ، أوزلة فى معنى ، أو اغفال أو وهم أو نسيان ، فمعاذ الله أن يكون هذا من هذا الباب ، أو أن يكون له مشاكلا أو مقاربا ، أو يكون المنبه عليه آثما ، بل يكون مأجورا عند الله ، مشكورا عند عباده الصالحين ، الذين لا يميل بهم هوى ، ولاتداخلهم عصبية ، ولا يجمعهم على الباطل تحزب ، ولايلفتهم عن استبانة الحق حسد .
وقد كنا زمانا نعتذر فيه عن الجهل ، فقد صرنا الأن نحتاج الأعتذار من العلم ؟! وكنا نؤمل شكر الناس بالتنبيه والدلالة ، فصرنا نرضى بالسلامة ، وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال ، ولاينكر مع تغير الزمان ، وفى الله خلف وهو المستعان”
هكذا يتوجع الحافظ ابن رجب , من أُناس حملهم التعصب لأئمتهم ، على المنع من الرد عليهم ، والبيان للحق والصواب في المسائل الشرعية .
5•ما هي نصيحتكم لطلبة العلم الذين يتعصبون للمذهب أو للرأي ؟
الجواب :
الإسلام ذمّ التعصب للرأي ، والشرع نهى عنه ، سواء أكان التعصب لرأي ، أو لشخص أو قبيلة أو بلد أو غيره , بل ونسب الإسلام العصبية إلى الجاهلية ، ووصفها بالمنتنة ؛ تقبيحاً لها ، وتنفيراً من شأنها ، والعصبية لها صور شتى ؛ فمنها العصبية من أجل الدنيا ، كعصبية الرجل لرأيه ، ومبالغته في انتصاره لنفسه , وكعصبية الرجل لولده وأهله وقبيلته , وكعصبية الرجل لبلده وجنسيته وازدراءه من دونه من الجنسيات ولو كانوا مسلمين ؟! ومنْ صور العصبية المعاصرة : التعصب لناد أو فريق رياضي ؟! تعصباً قد يودي بعلاقته بصاحبه المسلم ، وأخيه وجاره وهكذا ، في غضبه وانفعاله .
وقد وصفت السنة المطهرة التعصب لشيخ أو عالم حبر واتباعه حتى لو خالف الدليل بالعبادة . قال صاحب معارج القبول : “وقد سمى الله تعالى طاعة العلماء والأمراء ، في تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحلّه ، سمى ذلك عبادة ، وأنه اتخاذ لهم أرباباً من دون الله ، فقال تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ ) التوبة: 31 الآية.
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوها : إنا لسنا نعبدهم ؟ قال : ” أليس يُحلون ما حرّم الله ؛ فتحلونه ، ويحرمون ما أحل الله ؛ فتحرمونه؟ ” قال : بلى ، قال: ” فتلك عبادتكم إياهم “.
فالتعصب لعالم أو شيخ في مخالفته للكتاب والسنة ، تعصب مذموم ، قد يورد صاحبه المهالك .
وقد تواترت الآثار عن أئمة السلف الدالة على ضرورة ووجوب اتباع الدليل ، وترك التقليد الأعمى ، والتعصب المذموم .
وقد روي عن الأئمة الأربعة وغيرهم أصحابهم أقوالا شتى وعبارات متنوعة ، كلها تؤدي إلى شيء واحد ، وهو وجوب الأخذ بالدليل من الأية والحديث ، وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها ، وكل الأئمة قالوا : “إذا صح الحديث فهو مذهبي” .
يقول الإمام أحمد رحمه الله ، وهو أكثر الأئمة جمعاً للسنة ، وتمسكا بها ، حتى كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي ، ولذلك قال : ” لا تقلدني ، ولا تقلد مالكاً ، ولا الشافعي ، ولا الأوزاعي ، ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا” .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية فى الفتاوى : ” وَمَنْ تَعَصَّبَ لواحِدِ بِعينه مِنْ الْأَئِمَّةِ ، دُونَ الْبَاقِينَ ، فهو بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَعَصَّبَ لواحدِ بِعَيْنِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، دُونَ الْبَاقِينَ ؟! “. الفتاوى (22/252).
وانظر كلام العلامة ابن القيم في “إعلام الموقعين” (2 /302) .
6•هل يوجد منظور شرعي للتعاون والتنسيق في الأفكار والمواقف والمناهج بين الجماعات الإسلامية الموجودة على الساحة؟
الجواب :
من الواجب أن يكون المسلم معتنيا بأنواع التعاملات مع الخلق ، فيتعامل معهم على وفق الشرع ، ولا يكون متعاملا معهم على وفق هواه ، ولا على وفق ما يريد هو ، فالتعامل مع الناس بأصنافهم ، يحتاج إلى العلم الشرعي ، وإلى الحكمة في التطبيق .
وبذلك تظهر أهمية هذا الموضوع ، وهو : فقه التعامل مع المخالف .
ويلاحظ بشكل ظاهر أن التعامل مع المخالف ، يجري اليوم بين المسلمين ، الدعاة وغيرهم ، وفق مناهج متباينة ومضطربة ،فهناك المنهج المتساهل المفرط ، وهناك المنهج المتشدد المتنطع .
والكلام على الناس ، وتقرير طريقة التعامل معهم ، أو الموقف منهم ؛ يجب أن يكون مبناه على العلم والعدل ، والتزام أُصول منهج أهل السُّنّة وقواعدهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : ” ولما كان أتْباع الأنبياء هم أهل العلم والعدل ، كان كلام أهل الإسلام والسُّنة مع الكفار ، وأهل البدع بالعلم والعدل ، لا بالظن وما تهوى الأنفس ؟!” . الجواب الصِّحيح (1/107-108).
وقال: “وأئمة السُّنّة والجماعة ، وأهل العلم والإيمان ، فيهم العلم والعدل والرحمة ، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسُّنّة ، سالمين من البدعة … ويرحمون الخَلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم ، لا يقصدون الشرّ لهم ابتداءً، ، بل إذا عاقبوهم وبيّنوا خطأهم ؛ كان قصدهم بذلك بيان الحق ، ورحمة الخلق ” . الرد على البكري (2/49).
* ومما ذكره أهل العلم أن البدع تتفاوت ، وأنّ أهل البدع طبقات ، فالتعامل معهم ليس سواء ، فمنهم من سقط في بدعة أو بدعتيـن بغير قصد ، وأصوله صحيحة , فهذا لا يعد من أهل البدع ، ومنهم من كان في أصوله ابتداع ، ومنهم من كان داعية لبدعة ، محارباً لأهل السنة ، ومنهم مَن لا يعاديهم ، ومنهم الداعي إلى بدعته ، ومنهم العامل بالبدعة ، ولا يكون داعياً إليها ، فمعاملتهم ليست سواء ، فيجب التفريق بين الداعية و غير الداعية .
وكذلك لا بد من التفريق بين البلد الذي تكون فيه السُّنة قوية ، وأهلها معززين ، والبلد الذي تكون فيه دعوة أهل السنة غير قوية ، وأهلها ضعفاء ، وكذلك الزمان والمكان الذي عمّ فيه وانتشر الجهل بمذهب السلف ، والزمان والمكان الذي فيه نور النبوة ومذهب السلف منتشر وقوي .
7•كيف تقيمون واقع الأمَّة الإسلامية ، وما تمر به من محنة كبيرة ، ولا سيما بعد أحداث الثورات العربية ، والمسماة بالربيع العربي ؟
الجواب :
فالأمة العربية الإسلامية في السنوات السابقة مرت بأحداث عصيبة وعسيرة ، بل ودموية أحياناً ؛ حصلت فيها تغيرٍات كبيرٍة ، طالت بعض الدول والأنظمة الظالمة ، والملحدة أحيانا ، وقد تابع الناس أحداث تونس ومصر ثم ليبيا وسوريا والعراق واليمن وغيرها ، وذلك بكل اهتمام ومتابعة ، وقلوبهم معلقة بآمال كبيرة وكثيرة ؟! على حصول تغيرات جوهرية نحو الأفضل والأحسن ؟! ولكن لم يحصل شيء مما أملوه ، بل حصل عكس ذلك ، من ضياع للأمن ، واضطراب وفوضى في البلاد ، وتخريب للمدن ، وتشريد لأهلها ، كما حصل في سوريا وليبيا وغيرها ، ولا يزال المستقبل مجهولا لها ، وما يدري المسلمون ماذا سيحصل في بلادهم ؟! ولله الأمر من قبل ومن بعد !
وفي خلال هذه الأحداث تداول كثيرٍ من الشباب أسئلةٌ كثيرةٌ ، وجرى بينهم نقاشٌ طويل وعريضٌ عبر مجالسهم ونواديهم ، وعبر قنوات الاتصال الحديثة ، كرسائل الجوال ، والمواقع الاجتماعية المختلفة ، بعلم أحيانا كان الجدال ، وبغير علم أحيانا كثيرة ؟!!
يتساءلون فيها عن مشروعية هذه الثورات والاحتجاجات الجماعية وجدواها ، وهل هي صورة من صور الخروج على الحاكم أم لا ؟ وما الموقف الشرعي الصحيح منها ؟ ولماذا لا نرى بعض الرموز الدعوية تشارك فيها وتقود المسيرة ؟ وهل هذا خطأ منهم أو صواب ؟
فنحن نقول أولا : مسألة الخروج على الحاكم المسلم ، الذي أقام في المسلمين الصلاة ، ولم يروا منه كفراً بواحاً ، فمنهج أهل السنة والجماعة واضح في تحريمه ، ولو جار أو ظلم ، ولو استأثر بالأموال لخاصة نفسه ، لحديث أم سلمة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم : ” ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عَرف بريء ، ومن أنكر سلم ، ولكن مَن رضي وتابع ” قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : ” لا ، ما صلُّوا ” . رواه مسلم .
وكما في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” خيار أئمتكم الذين تُحبونهم ويحبونكم ، ويصلون عليكم وتصلون عليهم ، وشرار أئمتكم الذين تُبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم ” قيل : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : ” لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه ، فاكرهوا عمله ، ولا تنزعوا يدا طاعة ” رواه مسلم ( 1855).
ولحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : دعانا رسول الله فبايعناه ، فكان فيما أخذ علينا ، أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفراً بواحاً ، عندكم من الله فيه برهان ” رواه الشيخان .
وقد استقر أمر أهل السنة والجماعة على حرمة الخروج المسلم ولو كان ظالما ، نص على ذلك أهل العلم قديما وحديثا ، منهم القاضي عياض ، ونقله الأمام النووي كما في شرح مسلم (11/433) ، وكذا شيخ الاسلام ابن تيمية في منهاج السنة (4/529) ، والحافظ ابن حجر ، وأئمة الدعوة ، وغيرهم ، وهو الحق إن شاء الله ، وهو إجماع منهم .
وأما من أظهر الكفر البواح ؛ وهو الظاهر المعلن ، الذي دلّت نصوص الشرع عليه صراحة ، فقد أجاز العلماء الخروج عليه ، لكن بشرط القدرة على ذلك ، وهو شرط مهمٌ جداً ، حتى لا تُسفك الدماءٌ المعصومة ، وتزهق الأرواحٌ البريئة بغير فائدة ، قال الإمام الشيخ ابن باز رحمه الله : ” لا يجوز الخروج على السلطان إلا بشرطين : أحدهما : وجود كفر بواح عندهم من الله فيه برهان .
والشرط الثاني : القدرة على إزالة الحاكم إزالة لا يترتب عليها شرٌ أكبر منه . مجموع فتاوى ابن باز (8/206) .
وقد عانت الأمة الإسلامية كثيراً من حركات الخروج هذه ، قديما وحديثا ، حيث ذهبت فيها أرواحٌ كثيرة دون طائل ، وأتلفت فيها أملاك ، وخربت أوطان ، وزادت الأحوال فيها سوءا ، خلافاً للمقصود ، من الإصلاح للبلاد والعباد .
8•اعتزل عدد من العلماء الدعوة العامة بعد تلك الثورات ، فكيف ترون ذلك وهل هذا من مصلحة الدعوة إلى الله؟
الجواب :
من اعتزل الدعوة بعد الثوارت التي جرت في الوطن العربي الإسلامي ، هم في نظري أحد رجلين :
إما رجل تبين للناس خطأه الواضح في جرّ الناس إلى تلك الثورات والفتن التي جرت في بلاده ، وما عاناه الناس من ويلات ومحن وفتن ، أكلت الأخضر واليابس ، بسبب فتاويه وخطاباته ، فلم يعد الناس يثقون به ولا بكلامه وتوجيهاته ، بعد الفشل الذريع الذي حصل في تلك البلاد ، فانفض الناس عنه . وهذا أيضا من عقوبة الله له بسبب إضرارره بالمسلمين ، وتحمليهم ما لا يطيقون ولا يستطيعون .
والثاني : رجل منع من الكلام أو الخطابة أو الكتابة ، بعد تلك الثورات التي لا يميز أهلها أحياناً بين الصالح والطالح ، والسني والبدعي ، فهو بعيد ليس اختياراً ، وإنما إكراهاً .
ونسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا جميعا .
9•ما هو المخرج الشرعي مما أصاب الأمة ؟ وكيف تعود لعزها ووحدتها؟
الجواب : يقول الله تعالى : ( إنّ الله لا ُيغير ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقومٍ سوءً فلا مردّ له ومالهم من دونه من والٍ ) الرعد : 11.
فلله عز وجل سنناً لا تتغير ، وقوانين لا تتبدل ؛ قال سبحانه ( وإنْ يعودوا فقد مَضَت سنة الأولين ) الأنفال : 38 .
وقال ( سُنّة الله التي قد خَلت من قبلُ ولن تجد لسنّة الله تبديلاً ) الفتح : 23.
فالله عز وجل لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، بمعنى : أن الله تبارك وتعالى إذا أنعم على قومٍ بالأمن والعزة والرزق ، والقوة والتمكين في الأرض ، فإنه سبحانه وتعالى لا يزيل نعمته عنهم ، ولا يسلبهم إياها ، إلا إذا بدّلوا أحوالهم ، بأنْ نركوا الشكر وكفروا بأنعم الله تعالى ، ونقضوا عهده ، فتركوا طاعته ، وارتكبوا ماحرم عليهم ، وظلموا أنفسهم .
وكذلك هو سبحانه لا يغير ما بقوم من ضعفٍ وفقر وذلة ومرض ، حتى يغيروا ما بهم من معصية إلى الطاعة ، والغفلة إلى الذكر ، أو ترك فرائضه إلى المداومة عليها .
هذا عهد الله وميثاقه ( ومن أوفى بعهده من الله ) ؟! فإذا فعلوا ذلك لم يكن لهم عند الله عهدٌ ولا ميثاق ، بل تجَري عليهم سنّة الله التي لا تتغير ولا تتبدل ، فإذا بالأمن يتحول إلى خوف ، والغنى يتبدل إلى فقر ، والعزة تؤل إلى ذلةٍ ، والتمكين إلى هوان ، والاجتماع إلى تفرق وتشرد .
وقال سبحانه عن أهل حَرَمه فكيف بغيرهم ؟! قال ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباسَ الجوع والخوف بما كانوا يصنعون * ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ) النحل : 112-113.
والمتأمل اليوم في حال أمة الإسلام وماأصابها من الضعف والهوان ، وما سُلط عليها من الذل والصَّغار على أيدي أبنائها وأعدائها ، بعد أنْ كانت بالأمس أمة مهيبة الجناح ، قوبة مصونة الحقوق ، ليرى بعين الحقيقة السبب في ذلك كله ، فإنَّ أمتنا اليوم أمةً أسْرفت على نفسها كثيراً ، وتمادت في المعاصي بعيداً ، واغترت بحلم الله وعفوه ، وحسبت أن ذلك من رضى الله عنها ؟! ونسيت أن الله يُمهل ولا يهمل ، وأن للذنوب عقوبات ، وما الأمة إلا مجموعة أفراد من ضمنهم أنا وأنت ، وأهلي وأهلك .
تجول أيها المسلم في ديار الإسلام _ إلا من رحم الله _ وأخبرني ماذا بقي من المحرمات لم يرتكب ؟! وماذا بقي من الفواحش لم يذاع ويعلن ؟! وأول ذلك وأعظمه : الشرك بالله ، كباره وصغاره لا يزال عند كثير من المسلمين موجوداً ، فالأكبر منه هو كالتوجه للقبور والأضرحة بالدعاء ، وسؤال الموتى من الصالحين قضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ؟! فهناط مئات الأضرحة والمشاهد ، والأصغر كالحلف بالله ، وإذادة الدنيا بعمل الآخرة ، وأما الكبائر فحدّث ولا حرج ، فعقوق الوالدين منتشر ، والربا صروحه في كل مكان قد شيدت ، حرباً لله ورسوله ، والرشوة قد شاعت وانتشرت ؟! والزنا وسائله قد أعلنت وتزينت في كل شارع ؟ وفي كل قناة فضائية وجريدة ؟! والسفور والتبرج قد حل محل الستر الطهر والعفاف .
والخمر وهي أم الخبائث ، صارت لها مصانع ومتاجر في كثير من بلاد المسلمين ؟؟!
وارتفع الغناء ( صوت الشيطان ) ووضع وخفض القرآن ( كلام الرحمن ) وعزفت المعازف جهاراً في البيوت والأسواق ، بل وقي المدارس والجامعات ؟! وتجملت وصدحت القيان ( المغنيات ) في المحافل والإذاعات والفضائيات ؟!
حُكمٌ بغير ما أنزل الله الرحيم الرحمن ؟ وبقوانين ما أنزل الله بها من سلطان .
وتخلى المسلمون عن الجهاد بأنواعه إلا من رحم الله ، وركنوا إلى الدنيا ، وتبايعوا بالعينة ، وتبعوا أذناب البقر .
أفبعد هذا نرجوا نصر الله وعزته وتمكينه ؟!!
أبعد هذا نتساءل لماذا حلّ بنا هذا الهوان ؟!
أفبعد هذا نستغرب ما أصابنا من الذل على أيدي أعدائنا من شرار الخلق ، من اليهود والنصارى ، والمجوس والهندوس والبوذيين وغيرهم ؟!
إننا لن نخرج مما نحن فيه من الذل والصغار ، ولن ننال العزة والكرامة إلا إذا عُدنا إلى ديننا ، وتمسّكنا بإسلامنا .
فكما قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه : نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام ، فإن ابتغينا العزة بغيره ، أذلنا الله .
فالأمة لن تتغير إلا إذا تغير أفرادها ، إلا إذا غيّرت أنا ، وغيرت أنت ، وهو وهي ، إذا غيرنا أسلوب حياتنا إلى ما يوافق شرع الله ودينه ، وقلنا لربنا : سمعاً وطاعة ، في أوامره ونواهيه ، واتبعنا هدي نبينا عليه الصلاة والسلام ، وتركنا هدي الأمم المشركة ، كما أمر الله عزوجل ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) .
عندها نصبح أفراداً وأمة أهلاً لموعود الله تعالى ، بأن يغير الله ذلنا إلى عزة ، وضعفنا إلى قوة ، وهواننا إلى تمكين .
10•قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) فهل نعيش هذه الغربة الآن؟
الجواب :
قال النووي في مع نى الحديث : “إنَّ الإِسْلام بَدَأَ في آحَاد مِنْ النَّاس وقِلَّة ، ثُمَّ اِنْتَشَرَ وَظَهَرَ ، ثُمَّ سَيَلْحَقُهُ النَّقْص وَالإِخْلال ، حَتَّى لا يَبْقَى إِلا فِي آحَاد وَقِلَّة أَيْضًا كَمَا بَدَأَ ” اهـ .
فالإسلام بدأ غريباً ، حينما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إليه الناس إليه فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد ، فكان حينذاك غريباً بغربة أهله ، لقلتهم وضعفهم مع كثرة خصومهم وقوتهم وطغيانهم ، وتسلطهم على المسلمين ، حتى هاجروا فراراً بدينهم من الفتن ، ومن الأذى والاضطهاد والظلم والاستبداد ، وحتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى إلى المدينة بعد ما ناله من شدة الأذى يهيئ الله له من يؤازره في دعوته ، ويقوم معه بنصر الإسلام وقد حقق الله رجاءه ، فأعز جنده ونصر عبده ، وقامت دولة الإسلام وانتشر بحول الله في أرجاء الأرض ، وجعل سبحانه كلمة الكفر هي السفلى وكلمة الله هي العليا ، والله عزيز حكيم ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، واستمر الأمر على ذلك زمناً طويلاً ، ثم بدأ التفرق والوهن ودب بين المسلمين الضعف والفشل شيئاً فشيئاً حتى عاد الإسلام غريباً كما بدأ ، لكن ليس ذلك لقلتهم فإنهم يومئذ كثير، وإنما ذلك لعدم تمسكهم بدينهم واعتصامهم بكتاب ربهم وتنكبهم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من شاء الله فشغلهم بأنفسهم وبالإقبال على الدنيا فتنافسوا فيها كما تنافس من كان قبلهم وتناحروا فيما بينهم على إمارتها وتراثها ، فوجد أعداء الإسلام المداخل عليهم وتمكنوا من ديارهم ورقابهم فاستعمروها وأذلوا أهلها وساموهم سوء العذاب ، هذه هي غربة الإسلام التي عاد إليها كما بدأ بها .
وقد رأى جماعة – منهم الشيخ محمد رشيد رضا – أن في الحديث بشارة بنصرة الإسلام بعد غربته الثانية ، آخذين ذلك من التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم “وسيعود غريباً كما بدأ ” فكما كان بعد الغربة الأولى عز للمسلمين وانتشار للإسلام ، فكذا سيكون له بعد الغربة الثانية نصر وانتشار.
وهذا الرأي قوي، ويؤيده ما ثبت في أحاديث المهدي ونزول عيسى عليه السلام آخر الزمان من انتشار الإسلام وعزة المسلمين وقوتهم ودحض الكفر والكفرة ، والله أعلم
11•حدث خلط كبير بين السلفية وغيرها من الأفكار الجهادية والتكفيرية فما هي أسباب هذا الخلط، وكيف يمكن الفصل بين المنهج السلفي الحق وغيره من المناهج المنحرفة؟
الجواب :
أولا تتميز الدعوة السلفية بالشمولية فى الدعوة ، فدعوتهم تشمل الدين كله ، من العقيدة والتوحيد والأخلاق والمعاملات والسياسة ايضاً ، وتهتم بنشر الدعوة وإصلاح الناس ، وبالعلم الشرعي الصحيح ، والفهم الصحيح لنصوص الكتاب والسنة ، ومحاربة البدع والخرافات والشركيات ومساوئ الأخلاق .
ونعلم جميعاً أن الجهاد من العبادات العظيمة في الإسلام ، وباب من أبواب الجنة ، ولكن هذه العبادة لها ضوابطها وشروطها التي تصح بها ويكون صاحبها ماجوراً عليها ، كغيره من العبادات في الإسلام ، والتي أيضاً دخلها التحريف والتغيير والتبديل والبدع المخالفة للشرع .
وما يسمى اليوم بالسلفية الجهادية ، هى محاوله للتلفيق بين السلفية الحقّة ، التي جعل الله لها القبول والانتشار بين المسلمين ، وبين أفكار بعض الفرق المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة ، والمنبوذة عند المسلمين ، في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ، كالخوارج الذين يرون جواز بل وجوب الخروج على الحاكم الظالم ، وتغيير منكره بالقوة والسلاح ، وهو منهجهم ومنهج المعتزلة ، ويكفرون الحاكم الذي لا يحكم بالشرع دون تفصيل ودون إقامة حجة ، وكذلك يرون وجوب قتال الجيش والشرطة ويكفرونهم ؟
12•لماذا يلجأ الشباب إلى اعتناق الأفكار المنحرفة والتكفيرية ، وكيف يمكن حمايتهم من ذلك؟
الجواب :
الانحراف الفكري يترتب عليه ما لا يترتب على غيره من أنواع الإنحراف في الأخلاق في حياة الفرد وآخرته ، من أخطر صوره : الانحراف العقدي المتمثل في الوقوع في الشرك والكفر والإلحاد ، الذي يترتب عليه حبوط العمل ، وعدم قبوله ، ويترتب عليه تحريم الجنة على المرء واستحقاق النار والعياذ بالله تعالى ، قال سبحانه 🙁 إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ) المائدة .
ومن صور هذا الانحراف الواقع في هذا العصر ، وقد اتسعت دائرة صوره وتعددت صوره ، ولعل من أخطرها :
1 – السعي لزعزعة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في قلب المسلم ، وذلك باستبعاد الوحي من القرآن والسنة النبوية كمصدر للمعرفة ، أو تهميشه وجعله تابعا لغـيره من المصادر كالعقل والإحساس ؟! والسخرية من الإيمان بالغيـب واعتباره أسـاطير وخـرافات ، والسـعي لكسـر الحواجـز النفسية بين الإيمان والكفر .
2 – ومنه غلو بعـض شباب الأمة في التكفير ، وما ينتج عنه من أعمال العنف والقتل والتخريب .
3 – ومنه : وصـم مـنهج سـلف الأمـة في فهـم الديـن بالأصـولية والتطرف والإرهاب الفكري .
4- خلخلة القيم الخلقية الراسخة في مجتمعات المسلمين ، من الطهر والعفاف وحفظ الأنساب ، والدعوة إلى والتحلل والإباحية ، ونقض العهد مع الله تعالى ، ونبذ الأخوة والإيثار ، واحتساب الأجر ، واستبدال ذلك بقيم النفعية والنظر للمصلحة المادية دون سواها .
5 – تمييع قضـية الحـلال والحـرام في المعـاملات والأخـلاق والفكر والسياسة ، ومحاولة فك الارتباط بين الدنيا والآخرة .
وغير ذلك من مظاهر الانحرافات .
وعلاج ذلك يكون بتعاون الأسرة والمدرسة والمؤسسات التربوية والجمعيات الخيرية ، وذلك بالعناية بتأصيل ونشر العقيدة الصحيحة في مختلف مجالات التوجيه والتعليم ، من خلال المساجد ، ودور التعليم ، والوسـائل الإعلامية ، وبالتأليف والنشر .
2 – كذلك منع المنحرفين فكريا وأخلاقيا واهل الباطل من نشر أفكـارهم الضالة ، والتحذير منها والرد على أصحابها .
3 – رصد وسائل المبطلين في نشر مذاهبهم الضالة وعقائدهم المنحرفة ومنعها .
4 – بـيان وكشـف العقـائد الباطلة والمذاهب والأساليب المسببة للانحراف الفكري والتصدي لها .