الاستدلال على أهل الكتاب بما في كتابهم
السؤال (163):
هناك حلقة نسائية خاصة بدعوة الجاليات الأجنبية المسلمة وغير المسلمة، ولقد وردت بعض الشبهات من بعض الأخوات الأجنبيات من رواد الحلقة بخصوص دعوة غير المسلمين من النصارى إلى الإسلام، حيث أنهن يدعين أن المنهج الذي تتبعه الحلقة في دعوة غير المسلمين من النصارى بأنه طريقه استخراج الأدلة الي تدحض ادعاء النصارى بأن عيسى ابن الله والتثليث، وغيرها من الإنجيل «بدعة» وينافي منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة الكفار (من اليهود والنصارى) إلى الإسلام، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى كتب اليهود والنصارى لإقناعهم بالدخول في الإسلام كما أنهن يرين كتيبات «أحمد ديدات» وغيرهم من الذين يتبعون هذا المنهج في الدعوة بدعة، ومشاركة في البدعة، فأفيدونا جزاكم الله خيراً،
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، دين الحق الذي لا يقبل الله تعالى ديناً غيره بعد بعثة نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الواجبات التي أمر الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة أن لا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئاً و لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (آل عمران: 64).
ومن أساليب دعوتهم التي سلكها القرآن معهم، إقامة الحجة عليهم من كتبهم، فإنهم كانوا يعرفون مثلاً صفات النبي الخاتم الذي يبعث في آخر الزمان، بما جاء في كتبهم، ومع هذا لما جاءهم كفروا به بغياً وحسداً، كما قال تعالى: {و لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} (البقرة: 89)، كما جاء ذلك في سيرة ابن هشام (213/1) بسند حسن.
وعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب: 45) وحرزاً للأميين فأنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، ورواه البخاري في البيوع، ورواه في التفسير.
هذا، وغيره كثير يدل على أن ما في أيديهم من الكتاب يشهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو حجة عليهم، وإلا لما احتج الله به عليهم.
ومن ذلك أيضاً: قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فإِن كُنتَ فِي شكٍّ مّمَّا أنزَلْنا إلَيْكَ فاسْئَلِ الَّذِينَ يَقرءُونَ الكِتابَ مِن قبلِكَ لَقدْ جَاءَكَ الْـحقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْـمُمْتَرِينَ * وَلا تَكونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتكونَ مِنَ الْـخَاسِرِينَ} (يونس: 94 – 95) أي: اسأل أهل الكتاب المنصفين والعلماء الراسخين، فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به، وموافقته لما معهم، قاله السعدي رحمه الله. وقال: إن شهادة أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون إليه.
فإذا كان موجوداً في التوراة ما يوافق القرآن ويصدقه، ويشهد له بالصحة، فلو آفقوا من أولهم لآخرهم على إنكار ذلك، لم يقدح بما جاء به الرسول، انتهى.
وهذا من الأدلة الكثيرة على أن ليس كل ما في التوراة والإنجيل محرف ومبدل، بل فيه كثير مما بقي على حاله لم يغير ولم يبدل، كما هو القول الصحيح عند أهل العلم، وإلا لم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستشهد بما في كتابهم.
وكذا قوله تعالى عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَـمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْـمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} ثم قال: {وإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ* أولَمْ يكُن لَهُمْ آيَةٌ أن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 92- 97). فيخبر تعالى: عن القرآن الكريم المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام {وإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} أي: قد بشّرت به كتب الأولين وصدقته، وهو طبق ما أخبرت به.
وقوله: {أولَمْ يكُن لَهُمْ آيَةٌ} أي: علامة على صحته، وإنه من الله {أن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وهم أعلم أهل الكتاب.
وورد في السنة النبوية: إن الرسول صلى الله عليه وسلم احتج عليهم بما ورد في كتابهم، وألزمهم به.
فعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهودَ، فقال: «ما تَجدون في التوراة على من زنى؟» قالوا: نُسوِّد وجوههما ونُحمِّلهما ونُخالف بين وجوههما ويُطاف بهما. قال: «فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين» فجاءوا بها فقرءوها. حتى إذا مرُّوا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُره فليرْفع يده، فرفعها، فإذا تحتها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما. رواه مسلم في الحدود.
وغير ذلك كثير في الكتاب والسنة من إلزام أهل الكتاب بما ورد في كتابهم، وتذكيرهم بالحق الذي عرفوه وعلموه.
فكيف يقال بعد هذا أن هذه الطريقة بدعة، سبحانك هذا بهتان عظيم؟!
وهل غاب عنا ما كتبه علماء الإسلام الأفذاذ في الرد على اليهود والنصارى، من الكتب المليئة بالاحتجاج عليهم بمافي كتبهم؟ ومنهم ابن جرير الطبري وابن العربي والقرطبي في تفاسيرهم وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: «الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح» وابن القيم في كتابه: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، وابن كثير في البداية والنهاية وغيرهم كثير.
فهذا القول بعيد عن الصواب، بل هو الأقرب إلى الابتداع.
نسأل الله تعالى أن يُرينا الحق حقّاً ويرزقنا اتباعه ويُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، والله الهادي إلى سواء السبيل
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم