أرشيف الفتاوى

التبرع للأموات بالأعمال الصالحات

السؤال ( 123 )

الشيخ الفاضل / محمد الحمود
هل يجوز جمع تبرعات (( لميتة ) من قبل صديقاتها وعمل مشاريع خيرية ( حفر بئر – أضاحي ) ظنا منهن أنها تصل إليها . وهل يجوز كذلك الحج والعمرة عن الميت من غير الفريضة ، بحجة أن ثوابها يصل إليها ؟

الجواب :

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه ..
وبعد :

فالصحيح من أقوال أهل العلم : أن الميت ينتفع بما يُهدى له من أعمال صالحة مشروعة ، دل على مشروعية إهدائها الكتاب والسنة وعمل السلف الأمة .

فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال  : (( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو ولد صالح يدعو له ، أو علم ينتفع به )) رواه مسلم .
وكذا قوله عليه الصلاة والسلام : (( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )) .

وهذا مختصر لهذه المسألة ، مما ساقه الإمام ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في شرحه للعقيدة الطحاوية ، وهو مختصر من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله .
قال رحمه الله : والدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه : الكتاب والسنة والإجماع ، والقياس الصحيح .
أما الكتاب ، فقال تعالى : ( وَالذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ) ( الحشر : 10 ) فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم ، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء , وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة ، والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة .
وكذا الدعاء له بعد الدفن ، ففي ” سنن أبي داود ” : من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم  إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه ، فقال : (( استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يُسأل )) .
وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم ، كما في ” صحيح مسلم ” ، من حديث بريدة بن الحصيب ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا : (( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية )) .
وأما وصول ثواب الصدقة ، ففي ” الصحيحين ” ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال  : يا رسول الله ، إن أمي افتلتت  نفسها ، ولم توص ، وأظنها لو تكلمت تصدقت ، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : (( نعم )) .
وأما وصول ثواب الصوم ، ففي  ” الصحيحين ” : عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من مات وعليه صيام ، صام عنه وليه )) وله نظائر في ” الصحيح ” .
وأما وصول ثواب الحج ، ففي ” الصحيح البخاري ” : عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة  جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن أمي نذرت أن تحج ، فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال :  (( نعم  حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين ، أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء )) . ونظائره ايضا كثيرة .

وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت ، ولو كان من أجنبي ، ومن غير تركته ، وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة ، حيث ضمن الدينارين عن الميت فلما قضاهما ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الآن بردت عليه جلدته ))  رواه أحمد والطيالسي  .
وكل ذلك جار على قواعد الشرع ، وهو محض القياس ، فإن الثواب حق العامل ، فإذا وهبه لأخيه المسلم ، لم يمنع من ذلك ، كما لم يمنع من هبة ماله له في حياته ، وإبرائه له منه بعد وفاته .
والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى : ( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى )( النجم : 39 ) قد أجاب العلماء عنه بأجوبة : أصحها جوابان :

أحدهما : أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء ، وأولد الأولاد  ، ونكح الأزواج ، أسدى الخير ، وتودد إلى الناس ، فترحموا عليه ، ودعوا له ، وأهدوا له ثواب الطاعات ، فكان ذلك أثر سعيه ، بل  دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه ، في حياته وبعد مماته ، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم .
يوضحه : أن الله تعالى جعل الإيمان سببا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم ، فإذا أتى به ، فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك .

الثاني : – وهو أقوى منه  – أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره ، وإنما نفى ملكه لغير سعيه ، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى ، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه ، وأما سعي غيره ، فهو ملك لساعيه ، فإن شاء أن يبذله لغيره ، وإن شاء أن يبقيه لنفسه .
وقوله سبحانه :  ( أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى *  وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ) ( النجم 38-39 ) آيتان محكمتان ، تقتضيان عدل الرب تعالى :
فالأولى تقتضي أنه لا يعاقب أحدا بجرم غيره ، ولا يؤاخذه بجريمة غيره ، كما يفعله ملوك الدنيا .
والثانية : تقتضي أنه لا يفلح إلا بعلمه ، ليقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه ، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب ، وهو سبحانه لم يقل : لا ينتفع إلا بما سعى .
وكذلك قوله تعالى( لَهَا مَا كَسَبَتْ ) ( البقرة : 286 ) وقوله : ( وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( يس : 54 ) على أن سياق هذه الآية يدل على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره ، فإنه تعالى قال : ( فَالْيَوْمَ لاّ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( يس :54 ) .
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم : ” إذا مات ابن آدم انقطع عمله ” فاستدلال ساقط ، فإنه لم يقل انقطع انتفاعه ، وإنما أخبر عن انقطاع عمله ، وأما عمل غيره ، فهو لعامله ، فإن وهب له ، وصل إليه ثواب عمل العامل ، لا ثواب عمله هو ، وهذا كالدَّين يُوفيه عن غيره ، فتبرأَ ذمته ، ولكن ليس له ما وفى به الدين .

وقال : وأما استئجار قوم يقرؤون القرآن ، ويهدونه للميت ، فهذا لم يفعله أحد من السلف ، ولا أمر به أحد من أئمة الدين ، ولا رخص فيه ، والاستئجار على نفس التلاوة غير  جائز بلا خلاف ، وإنما اختلفوا في جواز الاستئجار على التعليم ونحوه ، مما فيه منفعة تصل إلى الغير .
والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله ، وهذا لم يقع عبادة خالصة ، فلا يكون ثوابه مما يُهدي إلى الموتى ولهذا لم يقل أحد : إنه يكتري من يصوم ويصلي ويُهدي ثواب ذلك إلى الميت ، لكن إذا أعطى لمن يقرأ القرآن ويعلمه ويتعلمه معونة لأهل القرآن على ذلك ، كان هذا من جنس الصدقة عنه ، فيجوز . انتهى ملخصا .
والمسألة تحتمل البسط أكثر من ذلك .
والله أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .

زر الذهاب إلى الأعلى