السبيل إلى الوحدة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين .
وبعد :
فمما لاشك فيه أن الإسلام دين الوحدة , الذي جمع بين الأمم والشعوب المختلفة الأجناس واللغات والألوان , بما قرره من حكم الأخوة الإسلامية , قال سبحانه وتعالى في ذلك ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (الحجرات 13) 0
والرسالة المحمدية كانت للناس كافة ، لا لإقليم ولا لجنس ولا لطائفة من الناس , بل كانت عامة للخلق في الدعوة والهداية , خوطب بها الناس جميعا إبان نزول الوحي , وذلك الخطاب دائم إلى يوم القيامة , قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (الأنبياء : 107) .
وقال : ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) (التكوير : 27 ) .
وقال : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (سبإ : 28) .
وغيرها من الآيات , ومحمد صلى الله عليه وسلم هو آخر لبنة في صرح النبوة كما , كما قال سبحانه ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) ( الأحزاب 40 ) , فلا نبي بعده , فرسالته خاتمة الرسالات السماوية 0
وقد أتم الله تعالى علينا نعمته بإكمال دينه , فقال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) ( المائدة 4 ) 0
وقال سبحانه : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ” ( النحل 89) , وهذه من أكبر نعم الله تعالى على الأمة حيث أكمل لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره , ولا إلى نبي غير نبيهم صلى الله عليه وسلم , فلا حلال إلا ما أحله الله ورسوله ، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ، ولا دين إلا ما شرعه الله 0
وأمرنا جل وعلا بالاعتصام بكتابه ، فقال ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) ( آل عمران 103) , وحبل الله تعالى هو كتابه , ومثله السنة , التي حوت كلام نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وقال سبحانه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (النساء 59) .
فأوضح لنا القرآن السبيل التي يجب أن نسلكها عندما تختلط السبل , وتفترق الطرق , وتكثر الآراء , أن نفزع إلى كتابه سبحانه وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم , وأكد هذا بقوله : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (الحشــر 7) .
وقد جعل الله تعالى القدوة الكاملة للأمة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم , فقال : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) ( الأحزاب 21 ) .
فالواجب علينا جميعا أن نقرأ كتاب الله تعالى , ونقف سنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وسيرته , وأن نتدبرهما للعمل بما فيهما من الأحكام , والاعتقاد بما فيهما من العقائد , والتصديق بما فيهما من الأخبار 0
* وقد ذم الله تعالى أهل الكتابين لكونهم لا يعرفون من كتابهم إلا مجرد القراءة والتلاوة , فقال سبحانه : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد 24 ) .
* ولما كانت الأمة الإسلامية متمسكة بدينها , خاضعة لأحكامه , مقتنعة بمبادئه وتعاليمه وأهدافه , مطبقه لشرائعه في جميع الميادين , كانت منصورة بنصر الله تعالى المبين ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (الحج 40) .
ثم لما تفرقت بهم الأهواء , وكثرت فيهم الآراء وضعف التمسك بالكتاب الكريم , والسنة المطهرة والسير على نهج الرعيل الأول من هذه الأمة , ارتفعت عنها الهيبة , وجعلت عليها الذلة , وتكالبت عليها الأعداء من كل جانب , وتداعت عليها الأمم , ولا حول ولا قوة إلا بالله 0
ولا بد أن نعلم أن كل رأي خالف الكتاب والسنة المطهرة , فإنه رأي فاسد لا خير فيه , وإذا قُدّر أن فيه خيرا , فإن ضرره أعظم وشره أكبر من خيره , فالحذر الحذر 0
وما أعظم تلك الكلمة التي قالها إمام من أئمة الإسلام , ألا وهو الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة في زمنه إذ قال : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها 0
** العصمة في إجماع الأمة :
وقد حذرنا الله تعالى من الخروج عن سبيل المؤمنين , ومخالفة إجماعهم , فقال سبحانه : وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ” (النســـاء115) 0
أي : من سلك غير طريق الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فصار في شق والشرع في شق , وذلك عن عمدٍ منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له , ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) , وهذا ملازم للصفة الأولى , فإن المخالفة قد تكون لنص الشارع , وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية , فإنه قد ضمنت لهم العصمة فيما اجتمعوا عليه , كما صح في الأحاديث الشريفة , فإن الله تعالى توعد من فعل ذلك – أي من المشاققة والمخالفة لسبيل المؤمنين – بالنار والعياذ بالله تعالى .
** ولا بد من الحذر من الإعراض عن الدليل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة , والاعتماد على ماليس بدليل ولا برهان , وقد ذكر علماء الأمة من ذلك : –
1. التقليد واتباع الآباء , والرجوع إلى هديهم وطريقتهم ، ورد براهين الرسالة وحجج القرآن , كقول الكفار لما أنكر عليهم عبادة غير الله تعالى ( قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) (الشعـراء 74) .
وقولهم : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ – أي على دين وملة – وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ )( الزخرف 23 ) , فقالت لهم رسلهم : ( أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) (الزخرف 24) .
فالتعصب للآباء سببٌ للإعراض عن الحق واتباع الدليل 0
2. ومن ذلك التعصب للمذاهب وآراء الرجال , سواء ولفقت حكم الشرع أو خالفته , وعقد الولاء والبراء على ذلك , فإن هذا الأمر مما ذاقت منه الأمة الأمرين , وتفرقت به شيعا وأحزابا متنافرة متقاتلة 0
والحق : أن أقوال العلماء والرؤساء يحتج لها , ولا يحتج بها عند التنازع والاختلاف , كما قال تعالى : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (النسـاء 59) .
وقال سبحانه : ( اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) ( الأعراف 3 ) 0
وقد عاب الله عز وجل على أهل الكتاب طاعتهم العمياء لأحبارهم ورهبانهم , فقال سبحانه : ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ) (التوبة 31) .
وفي سنن الترمذي وتفسير ابن جرير : عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب , فقال : يا عدي , اطرح عنك هذا الوثن ! وسمعته يقرأ في سورة براءة ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ) (التوبة 31) ، قال : ” أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم , ولكنهم كانوا إذا أحلوا شيئا استحلوه , وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه ” .
وقد حذر أئمة الإسلام أتباعهم من تقليدهم دون نظر إلى أدلة الشرع , وكم لقي المنصفون من أهل العلم من العنت والأذى من مقلدة المذاهب ومتعصبة الرجال , ممن لم يقتد بأقوال مشايخه المتبعين 0
فنسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم , صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ….
وأن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن…
وأن يجعلنا من مفاتيح الخير ومغاليق الشر … إنه سميع الدعاء 0
والله أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم 0